من الجميل البدء بلازمة قس بن ساعدة الأيادي, أسقف نجران, لنجيء إلى مآل المسيحية في المشرق حالياً, داخلين في فرن السياسة وإلى العجين اللبناني تحديداً.
في حديث لأرخونٍ من 14 آذار على عشاء مؤخراً, سأله أحد الصحفيين عن دور المسيحيين في اختيار رئيس للجمهورية اللبنانية فأجاب ببرود شديد (لم يعد للمسيحيين دور).. هكذا وببساطة يشطب أحدهم تاريخاً يمتد إلى أكثر من ألفي عام , لأن ذلك السياسي الطائفي رأى أن الديمغرافيا والسياسة الدولية وتحالفات العرب المسمّون معتدلة, وهم لا عاربة ولا مستعربة, توصل إلى أفول نجم المسيحيين وإجلائهم تاريخياً وسياسياً عن الشرق..والسفن ما تزال تنتظر منذ العام 1975 في البحر.
بكل بساطة هذا تخريف سياسي وتاريخي,ولذلك لا بد من رفع العمود في موقعه.
تصحيحاً لانزياح تاريخي.. فالمسيحيون غير مقصورين على لبنان,..هذا وهمٌ غربي يحكُّ على جربٍ محلّي جرى حقنه في ذاكرة البعض المريضة والمثقوبة على السواء منذ إقامة لبنان الكبير , فالحضور المسيحي الأبرز في المشرق هو في سورية, يليها العراق قبل المحنة وتهجير عدد كبير من المسيحيين ..إلى سورية في أي حال. أما لبنان فيحتل المرتبة الثالثة ب 840 ألف مسيحي من جميع المذاهب نصفهم من الموارنة , ثم فلسطين فالأردن ..هذا في الهلال الخصيب ,أما في مصر فموضوع آخر.
ثانياً إن المسيحيين في الشرق ليسوا حُجّاجاً موسميين يأتون لزيارة القدس, وقد كان حتى الحُجّاج فيما مضى يجيئون من الغرب عبر حلب إلى الرصافة(سرجيو بوليس) أي مدينة سركيس, شفيع التغالبة والغساسنة, ثم إلى صيدنايا فدمشق فبيت المقدس.بل هم أرومة هذي البلاد ,إنهم في هذا الشرق قبل أن يهدي الله بولس الرسول على يد القديس حنانيا الدمشقي. كانوا في حوران(إقليم العربية) والبتراء وجبال سنير (القلمون) وصولاً إلى حمص وأفاميا وحلب ومدينة الله أنطاكيا , وفي غروب القرن الميلادي الرابع كانت دمشق ما تزال (متروبوليس ) أي من أمهات المدن أو العواصم كما صنفها الإمبراطور الروماني أدريانوس (117-138م) ومركزاً لأبرشية فينيقيا الثانية اللبنانية , وفي مجمع خلقيدونيا(451م) كان يتبع لها 11 أسقفية.
فيما (مطارنة الوبر أو الخيَم) يجوبون مع قبائلهم في بادية الشام, ففي المجمع نفسه شارك 17 أسقفاً من بصرى اسكي شام و10 من البتراء.
المسيحيون المشرقيون العرب ليسوا جوالي فكيف تكون غسّان(لقّب الحارث الثاني بن جبلة بالبطريق) وتغلب وتنوخ وكندة وبكر وائل ولخم وجذام وطيء وقضاعة , البعض مونوفيزيون والبعض خلقيدونيون, جوالي في أرضها
(مراجعة الطبري والمسعودي وابن الأثير والأزدي والواقدي ..) . وعند فتح دمشق ترك خالد بن الوليد من جانبه 15 كنيسة وأبو عبيدة بن الجراح مثلها) لأقاربهم وأبناء جلدتهم في المدينة.
منذ ذلك الوقت وحتى اليوم حافظ المسيحيون العرب على حضورهم ودورهم في بلادهم , رغم محن أنطاكية والبيزنطيين والمماليك والمتعصبين السلفيين وجهّال السلاجقة والترك وبقوا مثل زيتونة جلس تحتها عيسى المسيح ذات يوم ليرتاح في الجليل .
أما في الشأن السياسي فقد عمد الإسرائيلي والأمريكي والغربي إلى تهجير مسيحيي القدس ومنحهم التسهيلات , فيما محاولات تفريغ هذا الشرق من أقوام تاريخية مسيحية كالكلدان والآشوريين والسريان والأرمن تجري على قدم وساق.
أما أخطرها ففي لبنان حيث دخلت الكنيسة في السياسة منذ الاستقلال , وتمت محاولة تغريب الرعية وجعل نموذجها (الفرنجي برنجي) ونزع جذورها المشرقية العربية وكأنها هبطت على هذه الأرض بالمظلة , ولم يقم بطريرك الموارنة حتى الساعة بزيارة قبر شفيع طائفته في براد قرب حلب , انطلاقاً من موقف سياسي , فيما قال بعد زيارة لأميركا إن الرياح الدولية مواتية لثورة استقلالية, رأى بعد سنتين ونيف أنها تحتاج إلى معجزة ربانية ليتفق عدد من رعاياه لا يتجاوز أصابع اليدين أمام عتبة صرحه البطريركي على رئيس لجمهورية أذلّ مواطنوها ودفع ببعضهم إلى تربة أخرى,. تارة بالجوع وتارة بالتخويف.
من جهة ثانية , تم تسليم زمام اختيار الرئيس إلى أيد طائفية مرتبطة بالغرب أيضاً, أحدهم يتمنى أن يصبح زبّالاً في نيويورك بعد أن كان ماسح أحذية في دمشق, والآخر يصرخ مقرّظاَ وطالباً حماية قاتل أطفال بلاده دون تفريق في ديانتهم ولون عيونهم, ولا يهمه أن يصبح المسيحيون أهل ذمة أو أن تجوز عليهم فتاوى ابن تيمية وطالبان...
إذاً (جَنَت على نفسها براقش ).. سياسياً, لكن المسيحيين المشرقيين ليسوا في خطر انطلاقاً من هذه الحقبة السياسية وهذه النظرة الضيقة,لأنه لا يمكن عكس سير التاريخ, فقد مرّت محن كثيرة على المشرق خرج منها موحداً في طوائفه وانتمائه, فبعد حوالي 500 عام من الاحتلال العثماني انتفض المسيحيون أيضاً يضخّون العروبة في عصر النهضة, أما من» يداه أوكتا) وهو وَجِلٌ من فاقة بعد عزّ ,فسيجد مرّة جديدة في الشرق من الطوائف الأخرى من يحمي هذا التنوّع ,.. لا في مصلحة تنظيفات نيويورك وباريس ولندن.
حتى لا أنهي هذا الحديث الطويل بكلام للذي تحنّف بغار حراء , القس ورقة بن نوفل, أعود إلى خطيبِ العرب وحليمها وحكيمها قبل أكثر من 1600 عام, قس بن ساعدة نفسه الذي كان أول من اتكئ على سيف أو عصا عندما سأله قيصر : »ما أفضل العلم قال: معرفة الرجل بنفسه).
المسيحيون المشرقيون يعرفون أنفسهم جيداً ويعرفون أن التمّسح بالغرب ومن التجأ له لن يجدي فتيلاً..وإلاّ لماذا لا تزال البطريركيات في مكانها !!?.
كاتب لبناني
ghassanshami@gmail.com