| أطياف الروح معاً على الطريق في العوز والمخيمات عندما مرت تلك المناسبة الروحية الكبيرة في عالم التصوف وهي ذكرى (جلال الدين الرومي) أحد الأعلام منذ أكثر من ثمانية قرون, ولا تزال رباعياته وأشعاره في الغزل تملأ الصدور بالسمو والحبور وكذلك تشغل المحققين والباحثين في شعره بل في طريقته التي تنبئ عنها أفكاره ونصائحه وتدل عليها (المولوية) التي أصبحت رمزاً غير مفهوم لكثير من الذين يشتغلون بالفنون. أقول مرت المناسبة في ذلك الاحتفال المبهر في قونية في تركيا, وشهدته على الشاشات كما في شريط خاص بالمناسبة لأخترق عوالم الصوفية التي انتمي إليها نسبيا, ودراسة, وشغفا أيضا, وعلى الرغم من أن جلال الدين الرومي لم يكن تركياً بالمعنى الذي نفهمه الآن بل كان روميا, عرف بلغته الصوفية والشعرية سواء في الفارسية, أو العربية, أو التركية, أو الأوردية فأصبح ملكا للإنسانية جمعاء, وأصبحت تلك الاحتفالات الروحية السنوية أو الاعتيادية للطريقة الصوفية أشبه ما تكون بفن من الفنون هبط من السماء محملا بالندى والصفاء. ومازلت أذكر أنني طرزت أحد كتبي في الدراسات الإسلامية منذ الستينيات بأشعار مترجمة عن الفارسية لجلال الدين الرومي, وقد أعجبت به كل الإعجاب كما غيره من الصوفيين كسعدي الشيرازي, أو ابن الفارض, أو الحلاج, أو محي الدين بن عربي, وعند هذا الأخير أتوقف أي (محي الدين بن عربي) ولايزال ضريحه صرحا مميزا في قلب دمشق يحتفي به الناس من العامة والخاصة, وتزدهر حوله الأسواق كما تختلف فيه الآراء والأذواق, إنه واحد من أضرحة وصروح نعرفها ونهتم بها, وأخرى لا نعرفها فلا نبالي بها مع أن الأمر يستوجب منا اهتماما فائق الجودة مادامت هذه المعالم التاريخية في بلادنا وخاصة دمشق, وعلينا أن نحيي فيها تلك المواسم الروحية والتاريخية لا لاجتذاب السياح, أو للتأكيد على ما سبق من حياتنا وتاريخنا بل لإنعاش تلك الروح التي تؤكد على جانب من جوانب ثقافتنا وتراثنا وارتباطنا بهذه الأرض على مر العصور. وكم هو مبهج ومثير للاهتمام أن تتلقى أجيالنا خيوطا من المعرفة يمكن أن تتوسع لديها سواء عن طريق الكتب, أو وسائل الاتصال الالكترونية فتنتقل مع أطياف الروح إلى ما مضى وما انقضى من بروق حضارتنا الروحية, وها هم السياح يتقاطرون من أقصى بلاد العالم إلى مثل هذه المناسبات لا ليتذوقوا فقط تلك الأجواء بل ليفتحوا صفحات من تاريخ هذه الأمة العريقة التي حملت الإسلام أقدس رسالات السماء, أماكن كثيرة في سورية كلها, وفي دمشق خاصة, وها هي قباب التكية السليمانية في مدخل دمشق وقد وصفها شوقي بقوله: ليست قبابا ما رأيت وإنما عزم تمرد فاسـتطال قبـابـا وها هو ضريح بلال الحبشي, وكثير من الصحابة يملأ أجواءنا عطرا تاريخيا ودينيا أيضا, وها هي أضرحة الأبطال وعظام التاريخ خالد بن الوليد, وصلاح الدين الأيوبي, وأبي الفداء صاحب حماة تنتثر كالدرر على مساحة سورية, ولا ندري لو أيقظنا تاريخنا الوطني القومي والإسلامي بل الروحي كم من المآثر الخالدات ستكون بين أيدينا نبرزها للعالم آيات خالدات عن ماضينا. ويظل جلال الدين الرومي ملكا للبشرية جمعاء وليس لمنطقتنا بالذات, آفاقه تتسع كما آفاق الروح, والأطياف ترف من حولنا وعلينا أن ننتبه لها لنبعثها أنوارا تكشف عن دواخلنا تماما كما تكشف عن تواريخنا, وكم هو مشوق ورائع أن يعود أحدنا إلى شيء من أشعار جلال الدين الرومي بأي لغة اعتمدها صاحبها ليلامس تلك الأطياف في الغزل والعشق الإلهي والسمو بالروح عن أدران الحياة الأرضية وما فيها.. وقطرة من بحر جلال الدين يقول فيها: ولقد شهدت جماله في ذاتي لما صفت وانصقلت مرآتي وتزينت بجماله وجلاله وكماله ووصاله خلواتي أنواره قد أوقدت مصباحي فتلألأت من ضوئه مشكاتي.
|
|