و هذا يعني التوقف عن الحروب و العدوان و الاستثمار في شعوب العالم و ثرواته، وهو ما يشكل - إن حصل - الموت البطيء لها ، وهو في هذه الفرضية ينطلق من حقيقة أن العقلية السياسية و الثقافية التي تشكلت في تلك الامبراطورية قامت على فكرة الهجرة و المهاجر الذي يجد ذاته في المال و الاستثمار، بل و يغامر ، و ربما يقاتل في سبيل تحقيق ذلك الهدف، فالمال و الثروة هما الأيادي و الأرجل التي تتحرك من خلالهما تلك الامبراطورية، لهذا كله نشأت و تأسست و استمرت على تحالف عضوي بين المال و السلاح و الفكر .
بهذا المعنى يمكننا أن نحلل ونفسر إلى حد بعيد طبيعة التفكير السياسي أو لنقل : الثقافة السياسية التي حكمت مسار تلك الامبراطورية بعيداً عن التوصيف الإيديولوجي للأحزاب التي نشأت فيها، أو النخب التي أنتجتها وضختها في في مفاصل السلطة الأمريكية و مراكز القرار فيها، من هنا يمكننا الجزم أن هذه النخب التي تتوزع في مراكز القرار هي انعكاس مباشر بل و ترجمة عملية لتلك الثقافة المحكومة بعقلية الهيمنة، ولعل ما جاء على لسان احد أهم شعراء أمريكا وهو والتر ايتمان: عندما أقف على شاطىْ كاليفورنيا و أمدّ البصر إلى بعيد واسأل بلا كلل أي شيء هناك وراء هذا البحر لم يكتشف بعد، ولعل هذا هو التجسيد العملي لهذه الثقافة .
إن نزعة الهيمنة و السيطرة و القوة هي بالفعل ما يحكم سياسة تلك الامبراطورية على الأقل، حتى الآن، و إلا كيف يمكننا أن نفسر كل هذا السلوك الأمريكي العدواني تجاه بعض شعوب العالم التي لا تستجيب لفكرة الهيمنة الامريكية أو تسير في ركابها أو تكون احد أدواتها لتحقيق استراتيجيتها الكونية تلك .
لقد ساد اعتقاد - ثبت أنه خاطئ - عند الكثير من الساسة و رجال الفكر و الثقافة و الإعلام في العالم، و حتى في الداخل الامريكي أن ثمة تغييراً حقيقياً سيصيب الاستراتيجية الامريكية بعد وصول الرئيس الامريكي الحالي باراك أوباما إلى سدة البيت الابيض مع بداية عام ٢٠٠٩ انطلاقاً من أنه جاء تحت شعار التغيير و القطيعة مع استراتيجية القوة و التوسع و الهيمنة التي سار عليها سابقوه من الرؤساء الامريكيين، وهو ما أوصل أمريكا إلى أزمة اقتصادية و أخلاقية بالدرجة الاولى جعل بعض رجال الفكر والثقافة فيها يطرحون سؤالاً إشكالياً و هو لماذا يكرهوننا - أي شعوب العالم - ؟؟؟
ما حدا بمرشح الرئاسة الامريكية في حينها باراك اوباما أن يقدم مقاربة جديدة في علاقة الولايات المتحدة الامريكية مع دول العالم تقوم على الحوار بدل القوة، و جاذبية النموذج بدل الاستئثار و الاستثمار في المعطى العسكري الاستراتيجي الامريكي، و هو ما يفترض انه أحد أهم الأسباب التي أوصلته الى سدة البيت الابيض .
لقد شكل الرئيس اوباما في بداية ولايته الرئاسية انطباعاً عاماً عند أغلب متابعيه من محللين سياسيين و رجال فكر وثقافة انه سيكون على قطيعة شبه تامة مع الإرث السياسي الامريكي التقليدي، وهو ما خلق نوعاً من التفاؤل و التعاطف مع توجهاته ابتداء، و لا سيما أنه تحدث بلغة مختلفة إلى حد ما في جولته في بعض البلدان العربية والإسلامية، و لا سيما مصر وتركيا حيث قدم نفسه بلغة تغلب عليها روح مارتن لوثر كينغ زعيم الحقوق المدنية الاسود الذي اغتيل في عام ١٩٦٨ و الحلم الذي حمله طيلة حياته، و قضى من اجله وهو المساوة والحرية و الكرامة للسود في مواجهة مجتمع محكوم بنظرة عنصرية تجاه الزنوج، و أخرى استعلائية تدعى كذباً رسالة الرجل الابيض تجاه شعوب العالم الثالث .
لقد انحاز الرئيس أوباما عبر سياساته التي انتهجها، و خاصة في مواجهة الازمة في سورية إلى النموذج الامريكي التقليدي، وهو ازعومة رسالة الرجل الابيض، أي الثقافة السياسية الامريكية القائمة على معطى القوة والهيمنة و عدم احترام إرادة الشعوب او الشرعية الدولية محاولاً تغليفها بنزعة أخلاقية عبر الحديث عن الإرث الاخلاقي الامريكي في محاولة يائسة منه استعادة ما خسرته امريكا نتيجة سياسات حمقاء اتبعتها في مواجهة الكثير من شعوب العالم، عبر عملية خداع و تضليل مكشوفة تحاول الضرب بذراع عسكرية مغلفة بقفازات مخملية ؟
khalaf.almuftah@gmail.com