وتصريحات لقادة كبار في عالم صنع الاستراتيجيات الكبرى وفي مقدمتهم أمريكيون عاصروا مرحلة التشكل الأول للجماعات الراديكالية الإسلامية زمن التحولات الكبرى ولا سيما الفترة الواقعة ما بين نهاية السبعينيات من القرن الماضي وبداية القرن الحادي والعشرين وإذا كان الإرهاب كظاهرة سياسية اجتماعية وفكرية ليس بالجديد في تاريخ البشرية إلا أنه أصبح الأكثر حضوراً وتأثيراً في المشهد الدولي خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي والاصطفاف العالمي الذي تشكل وفقها.
إن العودة لوثائق الاستخبارات الغربية عموماً والأمريكية على وجه التحديد مسألة لا بدَّ منها لتفحص التشكل الجنيني للجماعات الإسلامية التي سميت حينها جهادية واشتغل الإعلام والساسة في الغرب عليها كثيراً بهدف الاستثمار السياسي فيها وهذا يستلزم الدخول العميق في حيثياتها ونواتها المحركة لها وفي هذا السياق يقول زبغنيو بريجنسكي الذي عمل في الفريق الاستشاري الاستراتيجي ومجلس الأمن القومي الأمريكي إبان حكم الرئيس جيمي كارتر وفي ذروة المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي في الساحة الأفغانية في تصريح لصحيفة نوفيل أو بزرفاتور الفرنسية عام ١٩٩٨ مبيناً هدف أمريكا من احتضان ودعم الجماعات الإسلامية: إن الأمريكان خططوا لاستدراج السوفيات للخيار العسكري في أفغانستان وأنهم من أسس ما سمي الصحوة الإسلامية وصنع القاعده مبيناً أنه ليس بنادم على دعم أمريكا للتطرف الإسلامي الذي استقل عن سادته وأربابه، وبدأ يعتدي على المصالح الأمريكية هنا وهناك لأن الأكثر أهمية وقتها- ولا زال الحديث لبريجنسكي - كان إسقاط الإمبراطورية السوفياتية وإنهاء الحرب الباردة وتحرير أوروبا الشرقية وليست طالبان والهائجين الإسلاميبن سوى أعراض جانبية يمكن التخلص منها، انتهى قول بريجنسكي.
إن أقوال بريجنسكي الذي كان يشغل أرفع منصب استخباراتي واستشاري أمريكي ويعتبر من أهم المنظرين في الاستراتيجية السياسية والعسكرية والاستخباراتية حتى تاريخه يميط اللثام عن حقيقة الدور الأمريكي في صناعة واحتضان الحركات المتطرفة ولاسيما الإسلامية بهدف تحقيق أغراض سياسية واستعمالها الأذرع العسكرية لإسقاط أنظمة واستنزاف أخرى في متقابلة الأعداء والأصدقاء وبالنظر لما تقوم به الحركات المتطرفة وتحديداً السلفية الجهادية في منطقتنا راهناً لا بد للمرء أن يتفحص الدور الأمريكي والغربي في رعايتها وتغذيتها وتوجيه بوصلة نشاطها فإذا أسقطنا ما جرى في أفغانستان من أدوار لعبتها الحركات الإسلامية الجهادية وصبت بالنتيجة في خدمة الاستراتيجية الأمريكية نرى أن هذه الحركات الراديكالية المتطرفة تمارس نفس الدور في الصراع القائم في المنطقة العربية والإقليم عموماً فتنظيم داعش يستثمر اليوم تماماً كما استثمر تنظيم القاعدة في أفغانستان نهاية سبعينيات القرن الماضي فهو الذي يمارس القتل والإرهاب بحق السوريين ويستهدف الدولة السورية جيشاً واقتصاداً وبنية مجتمعية وهوية سياسية وهذه كلها تصبُّ في خدمة العدو الصهيوني وقوى الغرب الاستعماري التي ترى في سورية العقبة في مواجهة استراتيجياتها في المنطقة والخطر الوحيد الذي يتهدد الكيان الصهيوني بحكم ريادته لمحور المقاومة ومواجهة مشاريع الهيمنة الأمريكية أما في العراق فقد استخدم التنظيم أداة ضاغطة لتغيير الحكومة العراقية إضافة إلى تشكيله الذراع الذي يضرب القوى الكردية التي لا تنسجم مع توجهات الساسة الأتراك ناهيك عن تحوله إلى فزاعة وأداة ابتزاز لدول الخليج لنهب ثرواتها ومقدراتها المالية وتوجيهها نحو المزيد من عقد صفقات التسليح لتدوير عجلة مصانع السلاح في أمريكا والغرب عموماً ومساعدتها في حل أزماتها الاقتصادية وضائقتها المالية.
إن خرائط تحرك القوى المتطرفة تشير إلى حقيقة أن ثمة بوصلة سياسية تسير وفقها بحيث توفر في كل حركة منها فرصة للقوى الخارجية كي تعود للمنطقة بخوذة عسكرية فهي التي وفرت الأسباب والمبررات لعودة الأمريكي للعراق وهو الذي خرج منه تحت ضربات المقاومة العراقية البطلة واليوم يعطي الفرصة لأردوغان للحديث عمّا سمي منطقة آمنة على الحدود السورية في تحدٍ سافر لسيادة الدولةَ السورية على كامل إقليمها والهدف كما هو واضح تماماً السير خطوة باتجاه تحقيق أحلام أو أوهام عثمانية إخوانية تستبطن المتخيل الجمعي لبعض الساسة الأتراك منذ سقوط دولة الخلافة العثمانية.
إن أخطر ما تقوم به القوى الراديكالية المتطرفة راهناً هو أنها أعطت مفاتيح الدخول للمنطقة للقوى الاستعمارية الغربية المحكومة بحمى وعدوى الاستعمار تحت يافطة محاربة الإرهاب والقضاء على التطرف وهي التي دعمته ورعته واحتضنته واستثمرته أيما استثمار تماماً كما تفعل شركات التدخين التي تحذر من أضراره وهي التي تسوقه ومن ثم تبيعه وتقبض بالنتيجة أثمانه..
khalaf.almuftah@gmail.com