ينحصر الخياران بين الوطني واللاوطني بين الشريف والخائن، وبين الانتماء والخيانة، بين الكرامة والتبعية، فالأمر ينحصر في ضدين لا يمكن لهما أن يلتقيا مهما كانت الظروف ومهما كانت الضغوط ومهما كانت المتغيرات.
ليست القضية مسألة تشدد وتزمت عند حدود فكرة أو معتقد ما، فالأمر لا يتعلق بالمعتقدات والمفاهيم والأيديولوجيات السياسية والاجتماعية، كما أنه لا يتعلق بالمواقف من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك لا يرتبط بموقف من السياسة الثقافية والتعليمية والطريقة التي تتم فيها إدارة المؤسسات والهيئات الحكومية، ولا في شكل الإدارات ومستوياتها العلمية وخبراتها العملية، ولا حتى في طريقة وآليات المشاركة في الحكم، فأين جوهر الاختلاف في تحديد الخيار المصيري على المستوى الشخصي والمجتمعي والوطني؟.
جوهر الاختلاف باعتقادي يتمثل في الانتماء للوطن أو الخروج عنه وهو الموضوع الذي تم العمل عليه مطولاً بحيث تخرج مجموعة أفراد تحت تأثير المال والإغراء والإغواء خارج المنظومة المجتمعية الوطنية فتتبنى بصورة علنية أفكار الخيانة والعمالة والتبعية دون وازع أو رادع وبذلك تتحول قضية الوطن والوطنية إلى وجهة نظر، شأنها شأن الخيانة والعمالة والتبعية للعدو، وأي عدو هو ذلك العدو- إنه العدو التاريخي الذي ما كان يوماً ولن يكون في يوم قادم من إمكانية لعقد صفقة صلح حقيقية معه، فالصراع مع هذا العدو صراع تناحري إلى آخر الحدود، وليس ثمة أمل من إنهاء هذا الصراع بطريقة تفاوضية تحت أي ظرف من الظروف، وإن معاهدات واتفاقيات الصلح والمصالحة لا تعدو كونها اتفاقيات للهدنة لن تلبث أن تسقط في مراحل لاحقة، فضلاً عن أن العدو ذاته لا يلتزم حتى ببنودها أصلاً.
إن التغيير في البنية السيكولوجية والنفسية لبعض الأفراد ممن يتم العمل على دفعهم إلى واجهة الأحداث ويتم توظيف قنوات الإعلام لخدمتهم وتقديم أفكارهم اللعينة بصورة عدوانية، هو ما أمكن أن يمثل خرقاً في جدار الوطنية واختراقاً في سور الانتماء، فيبرر الساسة والسياسيون حمل السلاح ويصفون التمرد والإرهاب بالدفاع عن المدنيين المتظاهرين بطريقة سلمية في الوقت الذي يصول ويجول الباطل في الساحات التي اخترقوها.
صحيح أن ثمة اختراقات نفذتها شخصيات مصنعة في أقبية الاستخبارات الأميركية والغربية والصهيونية، وصحيح أن إمداداً مادياً ومالياً كبيراً وضع في خدمتها، وصحيح أن إمكانيات الغرب الاستعماري الاستخباراتية والمعلوماتية وضعت في خدمتها أيضاً، وصحيح أن الغرب وضع الأقمار الصناعية في خدمة التجسس على تحركات الجيش الوطني، وصحيح أن الحكومات الغربية الاستعمارية كلها سعت للتغطية على الأكاذيب التي يسوقها أولئك المصنعون في الغرف المظلمة للاستخبارات الغربية، وصحيح أن محاولات الغرب الاستعماري لم تنقطع عن توظيف المنظمات الدولية والإقليمية، فضلاً عن بعض المؤتمرات والتظاهرات الإعلامية لبثِّ الروح من جديد في جيفة أولئك اللامنتمين، لكن كل تلك الجهود المدعومة بأكثر من ترليون دولار من أموال النفط الخليجي لم تؤثر في وجدان أي مواطن منتمٍ تسليماً أو برهاناً لأبناء جلدته ممن تقاسم معهم الآلام والهموم وتطلع وإياهم لآمال مرتقبة تستعيد الدور الحضاري لأمة لن يكون لها إلا أن تقوم بذات الدور الذي بدأته منذ فجر البشرية.
إنها الحرب بين منتمٍ يمثل الوجدان والحق، واللامنتمي ممن أنشق عن جسد الوطن فطفا على السطح حيناً، لكنه يتبخر بالتأكيد بعد حين.