لكنها تطرح نفسها عنوةً في ظل حالة النزوع نحو الانفصال التي تنتقل عدواها كالنار في الهشيم، وتترك خلفها مساحات هائلة تتنازعها رياح الشهوات السياسية والتمنيات والضغائن أحياناً، و يبقى الأهم هو اللغز السياسي بدوافعه وأسبابه الذي يدفع تلك الأصابع التي تحرك تلك النزعات للضغط على زناد التناقضات، لإشعال المزيد من الحرائق بشكل انتقائي.
في المقاربات التي تناولت الحالة الكتالونية، وما تجره خلفها من عدوى انفصالية، وتتسابق الأقاليم والمقاطعات الأوروبية إلى خوض غمارها، ثمة أسئلة تحضر من باب العلاقة الإشكالية بين الحقِّ الذي تتكئ عليه مختلف المطالبات الانفصالية، وبين الحقِّ السيادي للدول الذي يبدو حمَّال أوجه وقابلاً للتفسير حسب الحالة السياسية، وأحياناً وفق أهواء المصالح التي تحكمه، وفي أحيان أخرى تأخذه إلى غير موقعه وموضعه، وما يصح هنا قد لا يكون جائزاً هناك، وما هو حق في بعض الحالات يصبح انتهاكاً وخرقاً للقانون يستدعي الملاحقة عندما يتحول إلى مشهد من الاصطفاف السياسي الملازم للجبهات التي يؤججها.
في عالم ما بعد عصر التكتلات الاقتصادية التي سادت في حقبة ما بعد الحرب الباردة وما تلاها، والاتجاه العالمي نحو مزيد من التلاقي على قاعدة المصالح الاقتصادية والنفعية، يسود الاعتقاد الكبير بأن تلك الحقبة لم تحمل سوى مزيد من الضغط على النقاط الضعيفة وحواملها والخلل القائم في تفاصيلها، والذي يعزوه البعض إلى حالة الاستلاب التي مارستها أميركا والغرب عموماً، وفرض سطوة سياسية استناداً إلى شقها الاقتصادي الذي حجز لها موقعاً متقدماً في أسباب النزوع الانفصالي اللاحق.
فإقليم كردستان شكل حالة صادمة لدول المنطقة، باعتباره منتجاً كانت بذرته المتورمة من مخرجات الغزو الأميركي، وما استجره على المنطقة من كوارث، وإن لم يكن العامل الأول أو المرة الأولى، حيث النزوع الانفصالي تحكمه إلى حدٍّ بعيد نوازع اقتصادية وتورمات وأوهام غذّتها نزعات استعمارية بالدرجة الأولى، ووقعت في شراكها بعض دول جوار الإقليم، وما هو أبعد من ذلك، نتيجة الأطماع الآنية والمصالح المشبوهة المرتبطة بجزء من العوائد النفعية من دون أن تأخذ بالحسبان العواقب المترتبة عليه، والتي تم استغلالها بشكل بشع بعد خضوع المنطقة برمتها لحالة من الفوضى والخراب وتعميمها الناتج عن توظيف العامل الإرهابي والاستثمار فيه من منظومة العدوان.
هذه المعطيات تنتفي إلى حدٍّ كبير في الحالة الكتالونية، وأحياناً تتناقض معها، حيث المعادلات الأوروبية التي أنتجت تكتلاً اقتصادياً أراد أن يحجز مساحته السياسية ابتلي بجيل من الساسة الذين يفتقدون للخبرة، ولا يمتلكون الطموح الكافي، فغرقوا في مستنقع الصفقات على حساب المشهد الشعبي الذي بقي متأخراً في التقاط النواتج الأولية لما تقوم عليه تلك السياسة الهوجاء، التي ارتكب خلالها السياسيون جملة من الأخطاء القاتلة في مقاربتهم لمستقبل الاتحاد الأوروبي، ولم تأخذ بالحسبان المتغيرات العاصفة التي شهدتها الحياة الأوروبية في العقدين الأخيرين. وليبقى السؤال عن الرابط الهش قائماً على مستوى المقارنة من دون الأخذ بفوارقه وأسبابه وعوامل نشوئه، والذي يصل إلى نتيجة مفادها أن الفارق ليس ببعده الاقتصادي والاجتماعي، وليس في التفاوت الكبير بين العوامل المؤثرة فيه، وإنما في السلوك المتعالي والأطماع التي حكمت النخب الأوروبية في هذه الحقبة.
النزوع الانفصالي وجد تربته الخصبة في السياسة الأوروبية، وكرسته لاحقاً الممارسة الأمريكية التي ورثتها بحكم الهيمنة فتورمت غرباً وشرقاً، وتساوت فيه الدول التي تعاني مشكلات بنيوية حادة و تحبو نحو إنتاج مشروعها الوطني، وتلك التي تتلمس بلوغ عتبة الرفاهية السياسية، وإن ظهرت في بعضها على شكل تورمات من الترف السياسي، هذا المشهد يتدحرج ليأخذ معه المشروع بطابعه التقني واللامشروع بنسخته السياسية إلى الوقوف أمام الحقيقة المرة، بأن ما يعانيه الشرق اليوم -نتيجة أطماع الغرب- هو ذاته ما يواجهه الغرب نتيجة تورمات أطماعه، حيث يتدنى الفارق إلى أدنى درجاته، ويتلاشى الاختلاف، ليصبح مشروع الانفصال في كتالونيا ببعده التاريخي، وما يحمله من تداعيات على أوروبا التي وصلت إلى مرحلة أرذل العمر، يحاكي مشروع الانفصال في كردستان بأبعاده الكارثية التي حملتها وتحملها المشاريع الغربية البديلة، أو على الأقل النسخ المحدّثة منها، بعد أن بلغ سايكس بيكو مرحلة الشيخوخة المتأخرة.. الأصابع الأوروبية في الحالتين حاضرة: واحدة نتيجة أطماع ساسة أوروبا والاستثمار الأميركي الإسرائيلي في مشروع الإرهاب المروّج لتلك الأطماع، والأخرى نتيجة عجزها والاستخدام الجائر للإرث الأوروبي ومفاعيله الاستعمارية.
a.ka667@yahoo.com