وإن لاذت به عبر مجموعة «المنشقين» في خارجيتها، كما اصطلح على تسميتهم، في طريقة ليست جديدة، لكنها تتعمد خلط الاستنتاجات المبنية عليها، وتتقصد التعمية على الاستدلالات الناتجة عنها.
عند تلك الذروة يبدو المشهد أكثر تعقيداً من الاستنتاجات السطحية، وحتى من التسريبات التي تشهد بدورها ازدحاماً، سواء ما تعلق بخطط واشنطن الجديدة أو المجددة، أم بالسيناريوهات الافتراضية، التي يشهد سوقها رواجاً متصاعداً، حيث المسألة أبعد من تعديل في المقاربة الأميركية وأكثر عمقاً من حدود الإدراك للخيارات البديلة، التي يتم تسويقها تحت مسميات عصرية أو مستحدثة من الميدان ذاته وما يفرضه.
في سياق المقارنة بين ذروتي المسار السياسي المؤجل أو المرحل، وبين التصعيد الميداني المتفشي بأدواته التقليدية أو تلك المحمولة على أجنحة الحضور الأوروبي على الأرض بغية حجز موطئ قدم حول الطاولة التي قد تأتي يوماً، بينهما تبدو أكثر من ذروة، وتصلح كل منها لتكون على رأس جبل التصعيد، لكن بينها ما يصلح ليكون متفرداً فيها أو من دون غيرها التي تتقاطع في مجموعة من المؤشرات التي تميل بطابعها إلى الخطورة في المقاربة الدولية.
فالتشدد الأميركي عبر الذراع الاطلسي، ومحاولة إعادة توضيب الأدوار الإقليمية بعد أن تم تقليم جزء من أظافرها، سواء كان التركي أم السعودي، جاء بالتوازي مع مجموعة من الخطوات التي بدت أقرب إلى التحرش بالروسي والإصرار على الاستفزاز، وتحديداً المتعلق منها بالاتهامات الموجهة حول قيام الطيران الروسي باستهداف ما سمتها أميركا مجموعات قامت بتدريبها وزرعها في عمق البادية، مضافاً إليها الرفض المتكرر بتطوير مستوى التعاون أو الإجابة عن الاسئلة الروسية حول «معتدلي» واشنطن في ريف حلب وإدلب وسواها من المناطق السورية.
على الضفة المقابلة له سياسياً، كان الحديث الأميركي يلامس عتبات إضافية من التصعيد، بدءاً من الحديث عن نفاد صبر واشنطن على روسيا، وليس انتهاء بالتسريبات عن ترتيبات تعمل عليها مع تركيا لقبول الوجود الكانتوني، أو ليكون بديلاً لها عن المناطق الآمنة أو المحظورة، حيث لاحظنا لأول مرة العسكريين الأميركيين يطلبون الإذن باستهداف الطيران الروسي والسوري لشرعنة المنطقة الآمنة!!
بهذه المؤشرات الميدانية والسياسية تتلاقى ذرى كانت متباعدة وأحياناً متناقضة، بعضها استخدم ليلغي ما قبلها، وهي تؤشر إلى أن الاشتباك السياسي تخطى عتبة التفاهمات السابقة، أو تجاوز ما كانت تقتضيه من خطوط تماس متفق عليها، ولم يعد يأخذ بالهوامش المعدة أو التي كانت تستخدم من قبل الطرفين وبرضاهما، وهذا ما يحسم الكثير من التقولات السابقة، ويلغي من التداول مجموعة من المسوغات التي برزت باتجاه إعادة تدوير الزوايا المغلقة أو التي لا جدوى من تدويرها.
بالمفهوم البسيط والمتداول فإن أميركا ليست فقط غير جاهزة أو غير ناضجة لإطلاق المسار السياسي، بل تستنفر أدواتها وما يلحق بها أو ما يعلق معها، وهي تغرف من قاع التصعيد وتضيفه إلى قمة جبل التصعيد، ليصبح الوحيد المنظور في الميدان والسياسة، وهذا يفترض تفعيلاً أكثر من أي وقت مضى بين حلفاء مواجهة الإرهاب، وتنسيقاً يتجاوز العتبات التقليدية ويحاكي في الحد الأدنى بعضاً من التصعيد الخطير المقابل ويواجه ما ينتج عنه من تحديات ومخاطر.
فالقضية لم تعد فقط صراعاً بينياً للاستحواذ على ذروة جبل التصعيد والاستفراد بها مع التحكم بطرق الوصول أو العبور إليها، بل محاولة للاستئثار بما يؤول إليه ذلك الاستحواذ، وما يقدمه، وما يترتب على ذلك بحكم أن الاستعصاء في التفاهمات وقصور جوانب التنسيق الأميركي الروسي لا يعود إلى صعوبة في القنوات أو القضايا الشائكة، بقدر ما يعكس رغبة أميركية صريحة بعرقلة أي محاولة لتسليك تلك القنوات وإغلاق الممرات الجانبية التي استُحدثت بحكم الأمر الواقع، بما في ذلك رفض تحديد سقف زمني لفصل «معتدليها» من الإرهابيين عن مستنسخاتهم من جبهة النصرة، والتذرع بصعوبة ذلك!!
التباينات في مقاربة المشهد، سواء من خلال ذروة الجبل المتراكم من التداعيات أم كان من جوانبه المتدحرجة على المجهول، يدفع إلى الجزم بأن أشهر الصيف ليست لاهبة بدرجات حرارة الطقس، بل أيضاً في معادلات الاشتباك المستحدثة وفي مناخ المشادات السياسية التي تفتعلها أميركا، بما فيها المشاغبة والاستفزاز لروسيا بدءاً من الأزمة في سورية وليس انتهاء بتحرشات الناتو، وتفرعات الدرع الأميركية المتشظية، مروراً ببقع التسخين المرشحة للاشتعال في أي مكان قد يكون صالحاً لصراع النفوذ في المشهد الدولي.
a.ka667@yahoo.com