لكن الأمنيات أحيانا تسبق الدعوات.. وها هي بعض أمنياتي تقوي من معنوياتي.. فأعود إلى الدروس الأولى التي تلقيناها بشكل مباشر أو غير مباشر من أهالينا وأساتذتنا وربما من الكتب المدرسية.. ويتردد في الذهن ذلك البيت المشهور لتلك الحادثة المزعومة عندما اختبر الأب أبناءه في صمودهم بقوله:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا
وإذا افترقنا تكسرت آحادا
وما كان أكثر تلك العبارات والأشعار والأخبار التي تزين كتبنا ودفاترنا إضافة إلى صور أبطال وشهداء ممن مروا على هذه الأمة وكان لهم شرف الفداء.
أما أمنياتي التي لم ترتبط إلا بتخيلاتي فهي:
تمنيت أولا وقبل كل شيء أن نتصالح مع لغتنا العربية التي تكاد تبكي أو تحتضر على ألسنة أجيالنا العربية.. وترف في خاطري تلك الالتفاتة الصادقة من الرئيس الراحل حافظ الأسد عندما أبدى اهتمامه باللغة العربية ليس في المرحلة المدرسية بل في الجامعية أيضا وحتى في وسائل الإعلام.
وتمنيت وأنا أرى جموع المشردين واللاجئين في أوطانهم تعصف بهم رياح البرد وأهوال الموت أن يؤتى بهم إلى عاصمة كبرى تزدان بعشرات الفنادق الفخمة فينزلون بها, ويستروحون نسمات الطمأنينة والهدوء بعد ما عانوه وما لاقوه من وحشية الصهيونية ومن أعمالها العدوانية.
وتمنيت أن نطبع آلاف الصور والنشرات والكتب بل المجلدات عن كل ما جرى في غزة العزيزة ونوزعها ليس بين بعضنا بعضا بل على العالم الخارجي بما فيه وسائل الإعلام, والصور تغني عن الكلام ولو سرنا في درب الآلام.
وتمنيت إذ تحمل دمشق راية العاصمة الثقافية لتسلمها للقدس أن نكون نحن- العرب جميعا-الذين يحتفون بالقدس وينشرون الكتب والصور كما الأبحاث والدراسات والندوات واللقاءات ليراها العالم كله ويسمعها فيعرف ما هي القدس العربية, وما تاريخها, وموقعها حتى إذا فكر بزيارتها يصطدم بالحواجز الفولاذية المادية والمعنوية للقوى الصهيونية فيدرك واقع القدس.
وتمنيت أن تأخذ غزة الباسلة الجريحة المصابة حتى استلاب الأعضاء وتساقط الشهداء جائزة نوبل للسلام لا أن تمنح لواحد من أعداء السلام.
وتمنيت كما تمنت كل نساء الأمة والأمهات أن نضم إلى صدورنا كما في مدارس وملاعب وأندية أطفال غزة المذعورين المروعين الذين يفتحون عيونهم فلا يجدون إلا الخراب والدمار وكأن الفجيعة تستبق منهم الأعمار.
تمنيت.. وتمنيت.. وما أكثر ما تمنيت أن يفتح العالم عيونه على الجذور التاريخية للصهيونية بما تحمل من عدائية وكراهية لكل شعوب الأرض لا للشعب العربي فقط.. وما الرصاص المسكوب فوق حقنا المسلوب إلا إشارة إلى تلك البدايات لشريعة القتل وإلغاء الآخر.. وإلى تلك البركة من الرصاص الذائب الذي قذف به مؤسس العنصرية للبشرية (حيرام) أو(أدونيرم) .. وكذلك عناقيد الغضب التي تفجرت منذ سنوات في قانا بلا ذنب أو سبب.. وها نحن وإذ تمر بنا السنون والقرون نتوقف لنفتح العيون ونرى الحقائق التي تغوص في أعماق الزمن كلما تقدم بنا الزمن.
فغزة إذن لم تعد جزءا من وطن بل هي القدس وفلسطين وكل الأوطان ما دام سلاح العنصرية التي فاقت النازية يتحدث بكل لسان.