الذي مرّ خريفه وأقبل شتاؤه بعد أن انكشف خيطه وانفضح أمره، وإن كل من سمّته معتدلاً ليس أكثر من مشروع متطرّف وإرهابي حتى لو بدا بلبوس مغاير لبعض الوقت.
فمن حمل السلاح ضد الدولة السورية كانت دوافعه ناتجة عن جذور متطرّفة وبأبعاد إرهابية لا تخطئها العين، وهذا ما تدركه واشنطن واستخباراتها منذ البداية، وخصوصاً أن الترشيحات لهم جاءت من دول وأطراف إقليمية لم تدعم إلا الجماعات المتطرّفة والمعروفة بجذرها الإرهابي ونشأتها ذات البُعد التكفيري وبإقرار من مراكز صُنع القرار الأميركي، ولم تُقدّم لأميركا إلا كل من تنطبق عليه تلك المواصفات.
المكابرة الأميركية على الأمر لا تعود إلى عدم إدراك أو معرفة، بقدر ما كانت تبحث عن طريقة تغطي سياسياً علاقتها بالتنظيمات الإرهابية، حيث جذر التحرك قادته ونظمته حركات ودول لا تؤمن إلا بتلك التنظيمات، والبقية أو ما يضاف لم يكن أكثر من رتوش لا تقدِّم ولا تؤخِّر في الأمر، بدليل أن تجربة امتدت لأشهر وكلّفت البنتاغون أرقاماً أكثر بكثير مما أفصحت عنه الدوائر الأميركية كانت واضحة المآل منذ البداية، والفكرة بحدّ ذاتها لم تكن أكثر من لعبة داخل الفانتازيا التي تحدّث عنها الرئيس أوباما ذاته.
وإذا كانت الدوافع الأميركية للتعديل في جوهرها محاولة للعب في الوقت بدل الضائع ورسالة إلى أنها لم تسلِّم بعد بالأمر الواقع، ولم تتخلّ عن أدواتها ولا عن المرتزقة الذين رعتهم على مدى أربع سنوات ونصف السنة، فإن المسألة الأخطر تتعلق ببيع الوَهْم من جديد وهو الذي مارسته طوال تلك السنين بكثير من التسويف والنفاق، وبنى أدواتها وحلفاؤها في المنطقة وخارجها الكثير من الأوهام عليه واستطالت إلى حالة مَرَضية لدى بعضهم وتحديداً ثالوث الإرهاب المتمثل في تركيا وقطر والسعودية.
مارست أميركا تلك التجارة الرخيصة، وتحت عناوينها باعت واشترت بأدواتها وحلفائها قبل أن تبيع أو تشتري في الآخرين، وخصوصاً أن تلك البضاعة لم تكن رائجة ولن تكون كذلك إلا لدى أدواتها، على حين الآخرون جميعهم تقريباً كانوا يدركون أنها بضاعة كاسدة وغير رائجة ولا يمكن المقامرة بها في سوق تبدو مقفلة ومفلسة، وبانت تلك البضاعة على حقيقتها مع وصول الأحداث إلى منعطفات مفصلية كانت تتعرض فيها البضاعة الأميركية تلك إلى نفور واضح من أقرب حلفائها ومن أكثر أدواتها ترويجاً للبيع والشراء معاً، على قاعدة أن النتائج التي كانت تظهر عند تلك الانعطافات تكشف الوجه الحقيقي لها.
كثير من تلك الأدوات لم يتّعظ من كوارث ما ألحقته به تلك البضاعة، وكثير منهم لم يكن من خيار آخر لديه، وبعضهم كان بحدّ ذاته مجرّد صفقة في تلك البضاعة وجزء منها وعنوان من عناوينها الكثيرة المتعددة، بل واحد من أهم مظاهر حضوره في سياق المشهد ولا يعدو كونه فصلاً إضافياً من فصول المتاجرة الأميركية الرخيصة تلك، وفي كل مرة كانت أميركا تعيد البيع والشراء فيها من جديد، ولم تتغير رهانات أدواتها ولم تتعدّل أوهامها، بل كانت في كل موسم أميركي إضافي للبيع والترويج كانت أوهامهم تعود إلى الظهور وتتورّم حالتهم الـمَرَضية.
العودة الأميركية إلى بيع الوَهْم وبالبضاعة نفسها ليس مجرد إعادة نفخ في أوهام تلك الأدوات فقط، ولا هو مجرد رسالة واضحة وصريحة على استمرار نفاقها، بل يتعدى هذه المرة ما سبقه من محاولات لترويج ما كَسد من بضاعتها إلى مرحلة تعيد إشعال النار في تراكمات أخطائها، وهي تدرك باليقين والدليل والقرينة أنها تأخرت كثيراً أولاً ولا جدوى منه ثانياً، لكنه للأسف لا يزال مشهداً رائجاً ليبقى الوَهْم مسيطراً على بعض أدواتها التي لا تكتفي بالتغريد خارج السرب الغربي، بل تجترّ أوهامها وحيدة ومقفرة من أي فسحة للحفاظ على دورها الوظيفي الذي يبقى رهانها الوحيد واليتيم للحفاظ على وجودها في مشهد عالمي يتغير، وفي نظام عالمي لا يقبل بالبضاعة الأميركية ولا يأخذ ما كَسد منها وما فَسد، ولا يُنتظر من أميركا أن تروّج يوماً إلا لبضاعة فاسدة تشبهها ولا تبيع إلا من يتبعها ويغوص في أوحال أفعالها.
ماهو محسوم أن الانعطاف في المشهد الدولي لم تعد تحدده السياسة الأميركية، بل حيث تمضي الخطوات الروسية في رسم إحداثياته بناء على معطيات أرض الميدان والصمود السوري مع حلفائه وأصدقائه، لتغدو فانتازيا الرئيس أوباما أبعد من حدود الحديث عن معارضة معتدلة، بل تنسحب أيضاً على مرتزقة وإرهابيين وتنظيمات وأطراف إقليمية تتبعثر أوراقها وتفقد رصيد وجودها الفعلي وتتحضّر لتصبح من الماضي على الأقل في المنطقة وإن كانت تتطلّع لتبني مستقبلها حيث نشأت وحيث لاقت الدعم والرعاية والتمويل والتسليح.
a.ka667@yahoo.com