تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


استراتيجية «الإشغال بالحرب طويلة»

صفحة أولى
الاثنين 7-7-2014
د. أمين حطيط

لم يعد خافياً على ذي بصر ان العراق بات المسرح الرئيسي الذي تعمل عليه أميركا للإمساك بالمنطقة والتحكم بمسارها لحجب هزائمها الاستراتيجية، ولاتخاذها منطلقاً لتعويض تلك الخسائر بقدر يمكنها من السير قدما في تأمين هدفيها الاستراتيجيين (إسرائيل والنفط)

ويمكنها من متابعة خفض الوجود العسكري الاميركي المباشر في منطقة الشرق الاوسط في سياق التحول الى المسرح الاستراتيجي الأخطر و الأهم بنظرها الآن القائم في الشرق الاقصى في مواجهة العملاق الصيني الذي يتعاظم شأنه بشكل مدروس ومخطط دون أن يؤثر في هذا التنامي شيء من السياسات الاميركية الكابحة.‏

بعد أن فشلت اميركا في تأمين هدفيها الاستراتيجيين عبر استراتيجية «الشرطي المحلي الحارس»، وهي الاستراتيجية التي عملت على تطبيقها عبر نظرية الاقواس الثلاثة المتضمنة لـ«قوس الإخوان المسلمين» الذي عولت عليه اميركا ليشكل قوس الحضانة والحراسة لاسرائيل، و«القوس الوهابي» لضمان استمرار تدفق النفط، ووضعهما (أي القوسين) في مواجهة من يتبقى من محور المقاومة بعد تفكيكه انطلاقا من سورية، يبدو أن استراتيجية اميركا الجديدة تقوم على «نظرية الإشغال» التي تتطلب إنشاء البيئة المنشغلة بذاتها المنصرفة عما سواها والمهتمة بدفع الاخطار المباشرة عن نفسها، والعـــاجزة عن تشكيل اي خطر جدي يقلق اسرائيل او يهددها وجوداً او فضاء استراتيجياً حيوياً.‏

لقد اتجهت اميركا في استراتيجتها الجديدة وبعد فشلها في انشاء البيئة الحاضنة لاسرائيل عبر «قوس الاخوان» المندثر والذي منعت سورية اكتماله ثم اجهزت عليه بعد ان غادرته مصر، اتجهت اميركا الى انتاج البيئة المنشغلة عن اسرائيل والمتآكلة بذاتها وهذا ما يؤمن للكيان الاسرائيلي امنه باشغال اعدائه عنه، عبر دفعهم للتآكل الذاتي لفترة طويلة من الزمن تلزم اسرائيل لاتمام مشروعها في السيطرة على كل فلسطين و تهويد دولتها ثم توسيع فضائها الاستراتيجي الحيوي في المنطقة، كما ويمكن من التأثير على سوق النفط بما يؤمن استمرار تدفقه بأبخس الاثمان، ثم انفاق عائديته على شراء السلاح لتشغيل مصانع الغرب.‏

اعتمدت اميركا «استراتيجية الاشغال» بعد أن أيقنت أن سورية دفنت المشروع الصهيوأميركي القائم على الاقواس الثلاثة ومنعت انتاج البيئة الحاضنة للامن الاسرائيلي، لذا ارتدت الى العراق (و هي لم تغادره أصلاً بشكل كامل) بطريقة اكثر خبثا من اجل تنفيذ مشروعها وفقا لخطة جديدة يبدو انها تتركز على «استراتيجية الاشغال و و التآكل والتدمير الذاتي»، استراتيجية قد توازي في سوئها ان لم يكن تتفوق على «استراتيجية القوة الصلبة» التي نفذ بها عدوان عام 2003 على العراق، لان فعلتها الآن ترتكز على «استراتيجية القوة الناعمة الذكية» التي ينظر اليها بحق انها أشد وأفظع فتكا بالخصم من الاستراتيجية التي اعتمدت سابقا، وخاصة انها زهيدة الكلفة على المعتدي الذي يشعل الارض بوقود الخصم فيحرقه بنار لا يقدم الاميركي فيها سوى عود الثقاب ولا يبذل من الجهد سوى التوجيه وإدارة النار دون ان يخسر قتيلا او ينفق دولارا.‏

إن منطقة الشرق الاوسط تواجه الآن صيغة جديدة من العدوان الاميركي بالغة الخطورة،صيغة تهدف الى اشغالها عن اسرائيل و دفعها للتذابح والتآكل والتدمير الذاتي، عدوان تنفذه اميركا وفقا لـ«استراتيجية الاشغال» التي تتطلب ، نزاعات وصراعات تولد حروبا لا تنطفئ، وادارة تمنع اي فريق من حسم الحرب لصالحه، وشحن نفسي من أجل تأمين الوقود البشري لنار الحرب، والسير في نهج التفتيت المتصاعد مع المحافظة على علاقة في سقف معين مع معظم اطراف الصراع لتحريضهم ومنع تواصلهم خشية اتفاقهم ووقف النزاع. وبموجب هذه الاستراتيجية نفذت «مسرحية الموصل الداعشية» وما تبعها من اعلان التنظيم الارهابي «داعش « لـ»دولة مزيفة « باسم الاسلام « و اقامة «خليفة» عليها بدأ نشاطه كما يبدو بتفجيرات في جنوب السعودية التي رعت الارهاب ومولته و يرتد عليها الآن في اطار الاستراتيجية الاميركية الرامية الى توسيع دوائر النار التدميرية.‏

ان من يراقب السلوك الاميركي حيال ما جرى وما تبعه يتبين انه يتطابق مع متطلبات الاستراتيجية الجديدة، رغم ان بعض السلوكيات تكاد توحي بعكس ذلك وخاصة عندما نسمع تصريحا اميركيا من هناك او حديثا من هنا يؤشر الى اهتمام اميركي بما يجري وسعي لمواجهته، فاميركا اتقنت خداع الغير لدفعه الى حسن الظن بها وجعله يسعى بقدميه لتحقيق مصالحها واهدافها. ومن المفيد هنا ان نتوقف عند ما سجل مؤخرا من سلوكيات ونحللها لنجد زيف الادعاء الاميركي بالحرص على العراق الامن الموحد.‏

نبدأ مع التسريبات «بأن الطائرات الاميركية بطيار او بدون طيار تستعد للتدخل في المعركة ضد « داعش» التي تمددت في المحافظات العراقية الوسطى الاربع ذات الثقل السني، و ما اعقبها من قول قائد الجيوش الاميركية الجنرال مارتن ديمبسي:»ان الجيش العراقي غير قادر بمفرده على استعادة المناطق التي دخلتها داعش في العراق «، و ما تزامن معها من اخبار حول انسحاب الجيش العراقي عن الحدود مع السعودية وانتشار سعودي عليها بحجم 30 الف جندي، كل ذلك يجري في ظل ضغط كردي في الشمال وتلويح بالانفصال . مواقف وسلوكيات قد تخدع البعض لكن تحليلها يقود الى فضح النوايا الاميركية كالتالي:‏

1) لو كانت اميركا صادقة في سعيها لمنع حصول «مسرحية داعش» لكانت تدخلت قبل وقوعها، عبر المعلومة ثم الضغط على مثلث رعاية المسرحية وتمويلها (السعودية، تركيا وقطر ) وكلهم اتباعها، لكنها لم تفعل وتظاهرت بالمفاجأة بما جرى رغم انها تملك من الاقمار الاصطناعية ما يحصي على المنطقة انفاسهاحتى و صور لوحة السيارة في بغداد كما فاخرت المخابرات الاميركية يوما .‏

2) لو كانت اميركا صادقة في التصدي للغزوة لكانت عملت بالاتفاقية الامنية العراقية الاميركية التي تلزمها بتقديم المساعدة للدولة العراقية لدرء خطر داهم يهدد امنها و سلامة وحدتها الاقليمية، لكنها لم تفعل متذرعة بانها لا تناصر طائفة ضد طائفة و في هذه الذريعة خبث يؤكد نوايا اميركا و حقيقة نظرتها لما يجري في الميدان بانه صراع طائفي.‏

3) لوكانت اميركا صادقة في تمكين الجيش العراقي من التصدي للعدوان، لكانت سارعت الى تسليحه و مده بما يلزم حتى يتكيف مع الخطر المستجد، لكنها لم تفعل بل نفذت العكس تماما فامتنعت عن تسليم السلاح الى هذا الجيش رغم ان الحكومة دفعت ثمنه مسبقا، و كانت الفضيحة الاكبر ماثلة بقضية طائرات الـ F16 التي حل اجل تسليمها فامتنعت اميركا عن احترامه.‏

4) ان اميركا تعلم و بدقة ان « داعش « لا تمتلك القوات التي تمكنها من الصمود امام القوات العراقية بعد اعادة تنظيمها و بعد تسليحها بما بدأ يتدفق عليها من سلاح من الخارج من الدول المعنية بفشل المشروع الاميركي، ثم انها تعلم بان ما جرى في الموصل كان مسرحية خيانية تآمرية تسببت في يقظة عراقية تحول دون تكرارها في امكنة اخرى، و رغم علمها هذا تقول وتقوم بما ذكرنا، لاجل ضرب معنويات الجيش العراقي وجعله ينتظر مساعدة خارجية قد لا تأتي.‏

5) ان اميركا تعلم حقيقة ما يجري على الحدود العراقية السعودية وان عملية الانسحاب العراقي والانتشار السعودي على الحدود لمثل هذا الحجم من القوى لا يمكن ان تجري خلال دقائق، خاصة اذا كان المعنيون بها جيوش كالسعودي و العراقي، ولا يمكن ان تتم بعيدا عن مراقبتها ورغم ذلك لم تنطق بحرف واحد يقطع التباين بين الطرفين الذين نفى احدهما الانسحاب، واكده الاخر عبر الاعلام من غير بيان رسمي؟ اميركا لا توضح لانها تريد احداث هذا الارباك و التهويل و التجييش خدمة لاستراتيجتها .‏

6) لو كانت اميركا جادة في منع التقسيم، او صادقة في منع استعماله ورقة ضغط وتجييش لكانت الزمت البرزاني – وهو صنيعتها ولا يمكن ان يخرج عن قرارها – باحترام الدستور و الانصياع لاحكامه في ظل الحكومة المركزية، لكنها لم تفعل لان سلوكيات البرزاني بما فيه تصدير النفط العراقي الى اسرائيل تخدم المشروع الاميركي.‏

يجب ان ندرك ان اميركا لن ترسل جيوشا لاخراج العراق من ازمته – وقد صرحت بذلك – ولن تقدم عونا عسكريا جديا يساعده على مواجهة الارهاب وان التلويح بالقصف الجوي لا يمكن ان يخدع العارفين بحقيقة الاستراتيجية الاميركية حتى ولو ارسلت بعض الطائرات و القت بعض الذخائر فانها لن تكون في خدمة العملية الدفاعية العراقية الجذرية بل ستكون من الفئة السياسية لقذائف «نيوجرسي الاميركية التي قصفت صخورا في جبل صنين اللبناني مدعية مساندة الحكومة اللبنانية وثبت ان العمل مسرحي لا فعالية له. ثم ان اميركا لن تمنع انفصالا ولن تحرص على وحدة العراق وهي التي انتجت بيئة تقسيمه لكنها لن تسعى اليه الان الا اذا تحققت ان الانفصال سيسعر النار ويخدم استراتيجتها التي ذكرناها ..‏

هذه الحقائق الفاضحة لاميركا تؤكد مرة اخرى كم كانت سورية و محورها - المقاومة – محقون في عدم الثقة باميركا وحلفائها، و بعيدو النظر في مواجهة العدوان الاميركي بصيغته السورية، وكم ان ايجابيات المواجهة ونتائجها في سورية جعلت من الارض السورية مقبرة لذاك العدوان و ادت الى تغيير معادلات دولية جعلت سورية بمنأى عن اخطاره، وهي صالحة اليوم للبناء عليها في العراق لهزيمة الحلقة الجديدة من العدوان،باعتماد استراتيجية دفاعية عن العراق و المنطقة، تفشل استراتيجية الاشغال والتدمير الاميركي، ولا يستلزم الامر الا تبصر ووعي وحشد الطاقات اسوة لما حصل في سورية التي تتابع التصدي للعدوان وتسجيل الانجازات تراكماً كما حصل في حلب مؤخرا حيث سجل الانجاز الاستراتيجي المميز الذي يشكل خطوة اضافية في الطريق للحسم في الميدان خلافا لاستراتيجية اميركا الجديدة ..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 أمين حطيط
أمين حطيط

القراءات: 1100
القراءات: 1741
القراءات: 1839
القراءات: 2066
القراءات: 2398
القراءات: 2444
القراءات: 2506
القراءات: 2493
القراءات: 2458
القراءات: 2959
القراءات: 3452
القراءات: 3062
القراءات: 3611
القراءات: 3447
القراءات: 3195
القراءات: 3762
القراءات: 3465
القراءات: 4490
القراءات: 4280
القراءات: 4660
القراءات: 4360
القراءات: 4264
القراءات: 4281
القراءات: 4686
القراءات: 5255

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية