وجعلني آراغون أتوق للإبحار أكثر فأكثر بمتابعة جديد الأدب الفرنسي المترجم إلى العربية وكانت وزارة الثقافة السورية مشكورة تترجم كل روائع الآداب العالمية.. ولكن لم أكن أتوقع يوماً ما أن تكون ثمة فجوة هائلة بين الغناء للحرية والطريق إليها أو ممارستها أبداً، فرنسا كما تسوق نفسها بلد الحرية وعاصمة النور، وملتقى ثقافات العالم ومصدر نظريات الفلسفة والأدب والحداثة وما بعد الحداثة وآخر صرعات الموضة والأزياء فرنسا هذه في قلب من يقود سياستها جاهلية عمياء وحقد دفين.
لم أكن أظن أن كلام الحرية لا يعني حباً بالحرية بل سياجاً من وهم، سارتر ونظرية الالتزام التي زادها ثراء وانتشاراً يوم زار ومعه سيمون دوبوفوار الأراضي العربية المحتلة وكانت له مواقفه المؤيدة للقضايا العربية كونها قضايا محقة، سارتر ذاته ينقلب أواخر حياته إلى مؤيد لسياسة الصهاينة ويعلل ذلك أحدهم بالقول: لأنه وقع تحت سطوة سكرتير أعماله اليهودي، وهذا الأخير جعله يتخصص في متابعة مقاييس الألبسة الداخلية للفتيات الصغيرات.
فرنسا أن تكون بلداً يعج بالحراك الثقافي والفكري وما إلى ذلك نصفق لها، نحتفي بها لكن أن تسفر عن وجهها القبيح وكنا نظن أنها قد غادرته إلى غير رجعة، كنا نظن أن مرارة النازية قد جعلتها تشعر أن الاستعمار ذل وعار، هل تتذكرون شاعرنا العربي السوري المرحوم بدوي الجبل حين خاطبها قائلاً:
قل للألى استعبدوا الدنيا- لسيفهم من قسم الناس أحراراً وعبدانا
إني لأشمت بالجبــار يصرعه- طــاغ ويرهقــه ظلماً وعــدوانــا.
سمعت باريس تشكو زهو فاتحها- هلا تذكرت يا باريس شكوانا
والخيل في المسجد المحزون جائلة- على المصلين أشياخاً وفتيانا
عشرين عاماً شربنا الكأس مترعة- من الأذى فتملي صرفها الأنا
ما للطواغيت في باريس قد مسخوا- على الأرائك خداماً وأعوانا
الله أكبر هذا الكون أجمعه- لله لا لك تدبيراً وسلطانا
ضغينة تتنزى في جوانحنا- ما كان أغناكم عنها وأغنانا
باريس التي تمردت وتجبرت عرفت مرارة النازية، باريس التي أرادت الشر بنا، قصفت مدننا وقرانا واستباحت حرماتنا وجوامعنا هي اليوم تفعل الأمر نفسه.. دنست المسجد الأموي وأحالت ضواحي دمشق إلى خراب بل وحملت بعض أحياء دمشق أسماء أتت من هول جرائم فرنسا (الحريقة).
كنا نظن أن الفكر والثقافة والابداع يغيران ويوجهان ويقودان نحو آفاق سامية لكن الظن قد خاب وأوغل في الخيبة والذهول.
فرنسا الاستعمارية، فرنسا الدولة التي لن تستطيع أبداً أن تغسل عار جرائمها بحق الإنسانية تمارس الجرائم نفسها ولكن بأسلوب جديد وأدوات جديدة.. هل لأحد في العالم كله أن يفسر لنا ما الذي يجعل ساكني الإليزيه مشدودين إلى أعراب لا يعرفون من الدنيا إلا الانهماك في الملذات.. ما الذي يجعل الحرية عندهم تعني أن يقتتل السوريون حتى الفناء، ما معنى حرية أن يجعل الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته نفسيهما تحت إمرة وإشارة أمير بالكاد يعرف الحروف الأولى حتى من أبجديتنا العربية.. هل ستقولون حباً بالحرية وهل لديه هو الحرية.. هل هذه هي الحرية.. وهل يسمح هؤلاء لأحد ما أن يعلن مجرد إعلان دعمه لقضية ما تخص الشأن الداخلي الفرنسي.
ألم يحرق ساركوزي أحياء المهاجرين بالحديد والنار يوم فكروا مجرد تفكير بإنسانيتهم.. هل تتذكرون (الغنغرينا) نعم ليس بالاسم خطأ، ليست الغرغرينا أبداً، (الغنغرينا) عملية تعذيب الجزائرين في باريس.
عام 1959م أصدرت دار مينوي كتاباً حمل العنوان السابق (الغنغرينا) وفيه جمعت شهادات عن التعذيب الذي ذاقه الجزائريون في سجون فرنسا حتى إن أحدهم واسمه جاك فوفا كتب مقالاً في جريدة اللوموند بتاريخ 20/6/1959 ومما قاله: والواقع إننا حين قراءتنا لهذه الصفحات الدموية التي نتمنى مخلصين أن يكون ما ورد فيها من صنع الخيال والأوهام، الواقع أننا نحار معها في إدراك ما هو أشد هولاً من الآخر، أهو بشاعة القسوة في التعذيب وفظاعتها أم هو حقارة نفسية أولئك الذين أضافوا الإهانة إلى عملية التعذيب الجسدي.
الغنغرينا إبداع فرنسي في التعذيب واحتقار الإنسانية وسائل يرويها الجزائريون وصدم العالم كله لهول ما سمع ولكن هل كانت (الغنغرينا) مع الجزائرين وحدهم؟!.
ماذا عن فظائعهم أينما حلوا واحتلوا.. لماذا نطوي صفحات استعمارهم ومآسيه في سورية .. هل ننسى كيف كانوا يحرقون بيادر القمح وقت حصادها وفي القائمة ما لا ينتهي.. باريس الفكر والثقافة اللذان لا يغيران يبقيان حبراً على ورق.. لا عطورك ولا أنوارك ولا كل ما بعد حداثتك تجعلني أؤمن أنك دولة حرية وديمقراطية ما دام قادتك في ركب جاهلية البعير.
d.hasan09@gmail.com