| السيرك الضاحك الباكي المهماز قابلت طالباً جامعياً يتصف بالطموح والنزق, سألته عن حياته ودراسته, فأجاب : أهلي المساكين لم يتركوا وسيلة معروفة أو مجهولة إلا واستخدموها من أجل إقناعي بدراسة الطب أو الهندسة, ولكنهم لم ينجحوا, ولم أدرس سوى الأدب العربي الذي أحبه وأحترمه. قلت : أحسنت الاختيار, فالأدب فعلاً محتاج إلى غوث عاجل لأن ساحاته يحتلها قليلو الأدب. قال الطالب : وبعد سنة سأتخرج من الجامعة, وأخوض غمار الحياة العملية. قلت : فليرحمك الله حياً وميتاً. قال الطالب : لن أعمل في أية وظيفة من الوظائف الحكومية حتى ولو عرض علي منصب وزير. قلت : أنت مخطىء, فمنصب وزير المالية لا يضاهيه أي منصب في العالم. قال الطالب : لن أعمل إلا العمل الذي ينسجم مع ميولي ورغباتي وامكاناتي ومؤهلاتي وشهاداتي, والذي يكفل لي دخلاً محترماً. قلت : أنت تطلب السهل المستحيل. قال الطالب:سأشتغل بائع شوندر مسلوق في الشتاء وزبالاً في الصيف. قلت : هذا كلام عقلاء. قال الطالب :وسأتزوج فتاة مستعدة لأن تكون شريكتي في أيام اليسر وفي أيام العسر. قلت : إياك وأن تتزوج فتاة تكتشف فيما بعد أنها العسر ذاته. قال الطالب : وسأكون أباً لثلاثة أبناء, ولن أسمح لأقدامهم بأن تطأ أرض أية مدرسة حماية لمستقبلهم من الضياع. قلت : وهل سيعملون كأبيهم بائعي شوندر في الشتاء وزبالين في الصيف? قال الطالب : سأجعلهم يتتلمذون على أبرع لص وأخبث محتال وأشهر قاتل حتى يحق لي التفاخر بأني أب يحب أبناءه حباً لا نظير له. قلت : ولكن تفاخرك سيكون منقوصاً لأنك لم تجعلهم يتتلمذون على أقدر منافق. فبهت الطالب الجامعي, وابتسم ابتسامة المعتذر عن تقصيره. - 2 - وقابلت صديقاً أعرفه منذ أيام الطفولة ساذجاً سهل الخداع, ولكنه ما إن صار رجلاً حتى تبدل وتحول من ماء عذب إلى ماء مالح ومن تفاح ناضج إلى سفرجل فج لا يؤكل, وقد حدثني بإسهاب عن حياته وعمله كلص نشيط ناجح, فقاطعته متسائلاً بفضول : ألا يزعجك ويخجلك أن يقال عنك إنك لص? فأجاب :ولماذا أخجل إذا كان الذين يسرقون أرواح الناس وأموالهم لا يخجلون? قلت : كيف ابتدأت السرقة? قال : وجدت الكل يسرق, فشمرت عن سواعد الجد وسرقت. قلت : هل سرقت لأنك كنت محتاجاً? قال : أعوذ بالله! الذين يسرقون لأنهم فقراء يسيئون إلى المهنة ويلطخون سمعتها بالوحل. قلت : ما رأيك في الاختلاسات التي تطال أموال الدولة? قال : إنها تشبه من يقطف تفاحة من شجرة يتظاهر حارسها بالنوم والشخير? قلت : وما رأيك في الرشوة المتفشية? قال : إنها تعبير جميل عن تعاون إيجابي بين من يملك قليلاً وبين من يملك كثيراً. قلت : لو كنت مسؤولاً, فهل ستسمح بالسرقة? قال : لن أسمح بالسرقة فقط بل سأصدر قانونا يعاقب كل من لا يسرق لأنه يمزق مجتمعه ويقسمه طبقتين: طبقة تسرق وطبقة لا تسرق. قلت : وماسبب دخولك السجن? قال : دخلته لأني نافست لصاً مكانته تفوق مكانتي, ولم أعلم آنذاك أن اللصوص مقامات, وخرجت منه بعد أن تعهدت بأكل العظم فقط تاركاً اللحم لنخبة من الأفواه الفخمة. قلت : ما رأيك في المستوى الحالي للصوص? قال : الجيل الجديد يبارز الجيل القديم بمهارة تبشر بمستقبل عظيم. قلت:ما هي الأمنية التي تتمنى أن تتحقق? ففكر لحظات ثم أجاب : أن يعم السلام الشامل في العالم حتى يتعاون اللصوص من كل الجنسيات لما فيه خير البشرية في ظل نظام عالمي جديد يأخذ من كل ذي حق حقه. فلذت بالصمت, ولم أفه بكلمة, واكتفيت بالتحديق إلى السماء, فمن ذا الذي لايحب السلام ولا يرحب بالاستشهاد في سبيله? - 3 - وقابلت صديقاً مولعاً بالعلم ويتابع تطوره وأخباره, وقد قال لي : أتعلم أن علماء الأرض في المستقبل سيخفقون حين يحاولون التصدي لمعالجة تلك الظاهرة الغريبة السائدة في القرن الحادي والعشرين في كل بلد من بلدان الوطن العربي, وهي أن الناس يعملون وهم نيام, ويأكلون وهم نيام, ويتكلمون وهم نيام, ويتزوجون ويتناسلون وهم نيام, ويعبدون الله وهم نيام, ويضحكون ويبكون وهم نيام, ويطيعون حكامهم وهم نيام, ويواجهون أعداءهم وهم نيام, وينامون وهم نيام, ويموتون وهم نيام? ولابد من أن علماء الأرض سيحتارون إزاء تلك الظاهرة, وسيعجزون عن تفسيرها, وتختلف آراؤهم, ومن المؤكد أن بعضهم سيزعم أن أولي الأمر في الوطن العربي اكتشفوا أساليب متطورة سرية لتنويم مواطنيهم بغير مخدر. فتثاءبت, وقلت لصديقي : لا داعي إلى أية حيرة, فالتفسير الوحيد القريب من الحقيقة هو أن الناس آثروا النوم هرباً من الفناء والإفناء. - 4 - ولم يُتح لي أن أقابل أحد جيراني, وكان رجلاً صارماً كارهاً للابتسام, ولم يصدق يوماً ما كان يُردد عن فوائد الابتسام, وظل مؤمناً أن الابتسام يشوه الوجه ويضعف الهيبة وينتقص من الرجولة, وكلما ابتسم غير متعمد أحس بالأسف, فقد ابتسم يوم أُبلغ أنه لن يغادر السجن حياً, وابتسم عندما زارته زوجته في السنة الثالثة من سجنه وأخبرته أنها حامل وأن بطنها المتضخم يدل أنها ستنجب اثنين أو أكثر, وابتسم عندما حُملت جثته الملفوفة بالكفن إلى حفرة قبر خارج السجن, فكانت ابتسامته الأخيرة أصدق ابتسامة ولم يأسف لها.
|
|