كان يعتبر أن رأيا من بيروت مهم وذو هامش إضافي,
رغم علمه بمدى انشغالي في وكالة الأنباء العالمية التي أعمل بها,وفي أمور أخرى تتأرجح بين الوطن والوطن,فبدأت مولياً على نفسي الإطلالة على القارئ في ربوع الشام بلغة غير جصيّة..سياسة يخرمشها الأدب وتزكزكها السخرية ,ومعلومة طازة أقنصها من متابعتي الدقيقة لأحداث العالم وقراءاتي المنتقاة,مشترطا عليه بمحبة,لمعرفتي بخطوط الصحافة الحكومية الحمر,عدم حذف أي كلمة قبل أن نتشاور ولعلمي أنني هنا أو في أي مكان لا أستطيع قول الحقيقة كلها, ولكنني أستطيع تدوير الزوايا, وللأمانة فقد حصل هذا بنسبة 95% .وحتى اللحظة فمن النادر أن تم تغيير كلمة, رغم لغتي التي تقارب السوط أحيانا,وأنا أحتفظ بجميع ما أرسلته من مقالات ,عندما تنشر في كتاب سيلمس القارئ صحة ما ذكرت..ويستغرب .
ما أن بدأت بحدْلِ طريق الكتابة إلى مصاطب القراء حتى اغتيل رفيق الحريري, في عزّ ظهيرة مازالت نجومها تلسع ظهور اللبنانيين, كنت فيها بالمصادفة في دمشق وكتبت مقالتي «تفجير الطائف« وصفت فيها مرحلة وأفرادا وعاهات وغايات وانقلابات,ثم قفلت إلى بيروت ليبدأ النقعُ ,حيث صار البغاث صقورا ومن كانوا يمسحون جباههم في ممسحة عنجر صاروا أبطال استقلال مزعوم, ورأيت الحقد على قدمين والصادقين يعضّون على الأسى ,فآليت على نفسي وأنا القصيُّ عن الجنّة السورية في لبنان أن أقف مع من أحسست بمظلوميتهم ,وأقصد من رأيته يقاتل في اجتياح 1982 ومن انتضى حرابه على تلال عين دارة ومن قدّم السيارات وتوابعها للاستشهاديين الأوائل, أن أقف مع هذا العامل الذي يبني لبنان ثم يجيء عنصريو الزمن« الجعبلاطيري« كي يهينوه ويضربونه ..صحيح أن المرحلة السورية لم تكن عقد ياسمين في لبنان ,لكن لم يكن عداء المأفونين الكذّابين للعامل السوري سوى حافز لي لأكشف وضاعتهم وأكتب في دمشق بالذات عن هذه السلطة التافهة وزبانيتها ومحققيقها وكتبتها ومرتزقتها وإمّعاتها وأوباشها وعسسها ,على الأقل حتى يشعر الشآميون أن في بيروت نبرة أخوة , وأنا الهلال الخصيبي مرجةً والبلاد شامي غوطةً ,والتارك قبرص نجمةً لأحفاد مكاريوس.
من يقرأ «معا على الطريق «مذّاك يقلّب مجمرة الحدث في موقدة أخرى,أغاظت كثيرين في لبنان. ولطالما كانت تأتيني اتصالات ورسائل تدعوني لتخفيف الوطأة , ولطالما هددني الغربان,وتمايلوا بين محاولات قطع الرزق والإغراءات التي يعرفها الأصدقاء..لكن تيسَنتي وانتمائي وقناعاتي و..كنيتي كانت تركلني للمتابعة رغم أنني أبدلت ثلاثة شرايين, انتزع أحدهم من فخذي فبتُّ أكثر تيسَنةً .
يعرف الصديق أسعد عبود وأحباء كثر في الجريدة أنني حاولت عدّة مرات الترجّل وكانَ والأصدقاء يثنوني بمحبتهم , وأصرُّ بدافع مهني,فمن التثقيل مداومةُ كاتبٍ على زاوية عدّة سنوات ,وبخاصة إذا كان ضيفاً شروايَ,فمن آداب الضيافة التخفيفْ.
طريق مشيناها معا ..يكفيني منها أنني عندما أعبر الحدود يقابلني الموظفون بمودة ينضحُ منها الخبز والملح.., لكن الآن وبعد أن دخل لبنان مرحلة جديدة آمل أن يعبر منها إلى سلام حقيقي وعلاقات أخوية لا رياء أو تكاذب أو ضغينة فيها مع الشام ومع نفسه, ورغم أنني ما أزال أوقن أن أعطاب النظام الطائفي فيه لا تستولد إلاّ الحروب الأهلية في إيقاع حركة العيش بين هدنة وشقيقتها, ولقناعتي أن الوقت حان كي أحزم كومبيوتري ودماغي إلى رحلة جديدة ..يأتي مقالي الأخير في هذه الزاوية.
أخبركم أن أحداً في الجريدة قد ذهل مساء أمس,فالعزيز أسعد والعزيز علي ينتظران مقالاً من نوع آخر يبحثان فيه عن كلمة نابية فجّت رأس أحدهم أو جملة نطحت السقف السياسي..لكنني للمرة الأولى سأخيب ظنهم,وللمرة الأخيرة سأريح الزملاء في الصفحة الأخيرة من عناء انتظار مقالتي على البريد الإلكتروني ليقفلوا باكراً, لأنني فعلا كنت أقنص اللحظات الأخيرة لأكون حاراً وعلى رؤوس أصابعي أمام القراء .. هؤلاء الذين سأشكرهم على تحمّلي وعلى محبتهم وعلى جميع التعليقات والرسائل البريدية التي لم أستطع الرد عليها,وأعتذر من جميع من أزعجتهم...
هكذا تحلو المغادرة على حين شهاب ,لكنني المتنعزقُ على أرجوحة بين القيمرية وباب أنطاكية والمدلّّهُ من طينِ ديار بكر حتى ذهبِ حوران والمعلقّ بين بعلبك وبنت جبيل سأتابع نشب أظافري وأسناني في رقاب أولاد الحرام أينما كنتُ.. ولأنها الشام أفخرُ أنني ..الشامي.
كاتب لبناني
ghassanshami@gmail.com