فجأة رأيتهم يرتبون أوراقهم وثيابهم ويجمعون شواحن هواتفهم وينوون الرحيل.
أهو الرحيل بهذه السهولة؟ ماذا يظن المسافر حين يلمّ رائحته من زوايا المنزل ويسحب وجهه من المرايا التي تتراكم فيها الملامح والأزمنة أو حين يغلق خزانة الأيام ليفتح درجاً في الذاكرة مملوءاً بالألم؟
هل يعرف الذين نحبهم أن العالم لا يكتمل إلا بهم. وأن الحياة لا تأخذ معناها وقيمتها إلا من وجودهم؟ في الغياب تنهمر الحروف لتكون عالماً يقترب من حضورهم.
لكنهم قرروا الرحيل. الحقائب مقفلة. وباب الحديد مفتوح على مصراعيه متهيئاً لعبور قافلة من السنين تتسع لعشرين عاماً أو أكثر من الحكايات والأسئلة الحائرة والدموع الباذخة والفرح الجليل.
تنهدت بصمت.. استسلمت لقرارات ليست بيدي.. حالي كحال كل الذين لهم أحباب يغادرونهم ويتجهون إلى عوالم مجهولة.. قد يعودون.. وقد يطيلون الغياب.. قد يردون على هواتفهم وقد يغلقونها أبداً فأستنجد بالصورة علّها تنوب قليلاً عن حضور كان منذ لحظات وكانت فوضى الكراسي وفوضى الثياب تملأ الصالون.. كل شيء كان يقول وداعاً وكنت أدعي الصبر لأني غير قادرة على رد الأسئلة التي راحت تنهمر من عيني كدموع ساخنة (لماذا؟).
لماذا كل هذا الهدوء في المكان بعد أن مشت حقائبهم خلفهم؟
بينما علا الضجيج في أعماقي؟.. هل وجودهم يجعلني أمسك بالزمن فلا يقدر على الانفلات من أصابعي؟ ويؤكد لي أن سيرورة الحياة مستمرة, بينما الغياب حالة من السكون التي تجعل ذرات الكون عاجزة عن الدوران فيتوقف سير اللحظات ويتوقف بناء الحلم ويصيب المشتاق حالة من العطالة تشبه آلة لا تقدر على الدوران؟
ها أنا أدور في المكان.. لا أرى إلا أكوابهم التي لم يكملوا شربها.. أهمس في حزن : ليتهم شربوا قهوتهم.. ليتهم لم يتركوا لي بقايا طعامهم الذي يرنوا إليّ وأنا أدير وجهي إلى الباب الحديدي الأخضر المفتوح كذراعين يريدان أن يحتضنا حبيباً قادماً من بعيد , لكن الحبيب لم يحضر في اللحظة المناسبة.
حاولت أن أدير الباب لأغلقه فلم أقدر.. كنت عاجزة تماماً عن الرجوع إلى الوراء فتقدمت عدة خطوات لأمسك بالطريق الهارب من بيتي إلى الشارع العام.. نظرت إليهم وهم يبتعدون.. كانوا كلما ابتعدوا يقتربون من روحي أكثر.. وكلما ذابت حافلتهم في المسافات حضرت وجوههم الحبيبة في عيني.. رفعت يدي ألوّح لهم.. لم يروا يدي.. وأنا لا أعرف إن كانوا قد انتبهوا أن وجهي يركض وراءهم.. وعندما انعطفوا انعطف الطريق وعاد بي إلى السور الذي سأغلق بوابته بالمفتاح فأنا لن أنتظر أحداً اليوم.
صعب أن نعيش الحياة دون انتظار حبيب.. وشرسة اللحظات التي تمرّ بلا شوق.. أمسك بدرفة الباب.. أسمع توجعها.. وإذ أغلق الأخرى أنفجر باكية.. أتلفت حولي.. لا أحد قربي سواي.. فأنا هم وهم أنا.. وبما أنهم سافروا فقد سافرت من نفسي أيضاً ولا أدري كيف أجدني.
لم أنتبه إلى شجرة الجوز التي تتدلى فوق راسي.. ولم ألاحظ نبتة الحبق العطشى على الدرج.. كل ما لاحظته أن المكان موحش.. وأن الصمت وجه آخر للغياب.
نعم.. لقد رحل الأحبة وها أنا ارفل بالهدوء الذي كنت أرتجيه لأكتب قصيدتي.. لكن هذا الهدوء اليوم يشعرني أن العالم توقف عن التفاعل معي.. وتوقفت نبتة الحبق عن بث عطرها إلى الأفق السماوي , فما جدوى خواتم الحنين.. وماذا أفعل بكل هذه الأشجار المنتظرة في الحديقة طالما لا يستظل بظلها الغائبون الذين أخذوا ظلالهم معهم وتركوا ظلي وحده يتنقل باحثاً عن ظلّ قصيدة بين حروف تعبت من هدير الذاكرة.
هاهو باب الحديد ينغلق.. وهاهي أضلاعه االمرشوشة بعطر الأنامل وأسئلة المفاتيح تبث أشجانها للمساءات القادمة.. فهل على المرء أن يقبض على جمر الحلم أم يترك روحه تهيم في عالم كل مفاصله وفضاءاته تقوم على أحبة وذكريات وشوق أليم؟
هو الشوق نعم.. وهو الحنين.. هو الافتقاد.. وكل ذلك هو وجه آخر من وجوه البحث عن أسمائنا وعوالمنا وزماننا الجميل.. هو محاولة للعودة إلى لحظات هربت مع رحيل الأحبة.
ها أنا أقفل باب الحديد باكرا”.. لكنني سأضع المفاتيح في أصيص الورد حيث سيأتي الغائبون ويفتحون الباب.. قد لا أكون في استقبالهم لكن روحي بالتأكيد ستكون حاضرة وسيكون قلبي واقفاً على الشرفة يلم أطراف الكلام عن كراسيهم.