لا يختلف اثنان على أن القيمة الفُضلى للإنسان هي غايةُ التربية، ومادتُها الأولى، مُحتويات مناهجها مَملوءة بكل ما يَنهض بها ويَحفظها، الوظائفُ التي تُكلِّف الجهات التربوية ذاتها بها تَتَركز على الإنسان وواجب الارتقاء به، الأهداف والطرائق والوسائل في العملية التربوية التعليمية، الإنسانُ مِحورها، مهما تَعددت، ومهما انفتحت على الثقافات الأخرى أو نَأت عنها، ذلكَ يَعود بالتأكيد للتوجيه الذي يَخضع لعوامل سياسية - واقع حال العالم - غير أنه لا يَقوى على مُقاومة وحدة الثقافة التي تَتَشكل منها الحضارة.
الحضارةُ كبناء تَراكمي، التفاعليّة أساسه، والتربية كعملية مُستمرة، المعارفُ والتَّقانات أداتُها، لا مَعنى لهما ولا قيمة تَحظيان بها إلا من كونهما فعل إنساني، الإنسانُ يُؤديه، والإنسانُ غَرضه بحالة الحركة التي تَسعى للتغيير والتطوير، وبحالة الثَّبات التي تَحفظ التغيير وتَفتح على الاستمرارية ولا تَسمح بالهَدم.
عليه فإنّ مَوقع التربية من الحضارة مُهم، ولا يَقل أهمية موقع المَعرفة، ولتَأخذ الثقافة مَوقعاً مُوازياً بالأهمية، فيما تتكفل الأدوات والوسائل بالحركة المُستمرة التي لا تتوقف عن العمل للعُلو بشأن بناء الحضارة التي تتعرض للعبث وتُطرح في سياقاتها نَظريات هي على التَّضاد تُثير الكثير من الجَدل البيزنطي غير المُفيد، بل المُؤذي.
لكل ما تَقَدَّم يُمكن الانتهاء بالحكم على أنّ الكثير من الجَدليات التي تُطرح في حقل التربية والتعليم، كما سواها من الجدليات المطروحة في الحقول المعرفية الأخرى، لا مَكان لها في الواقع إلا من بَوابة الخلافات الأيديولوجية التي نَشأت كنتيجة سياسية أنتجتها الصراعات على السلطة والمَكانة، ويَدحضها البناء الحضاري الإنساني الماثل، ذلك أنّ كل المَقولات الفلسفية التي تُدافع عن هذا الاتجاه أو ذاك وسواهما هي صحيحة ودقيقة، لكن فقط من زاوية مُحددة تقفُ عندها ولا يُتاح النظر لها إلا من خلالها للأسباب السياسية ذاتها لا الحضارية.
البناءُ الحضاري الكُلي إذا كان الإنسان قد أنجزه استجابة لتَحديات واجهته، وإذا كان قد طَوّره بفاعلية وحَركية لم تَعرف الركون لناجز، فإن التربية مَثّلت نبضَ الحركية تلك، بينما مَثّلت المعرفة المُحرك، فيما شَكّلت الثقافة الوقود الذي لا يَنفد دَفعاً لحركة ميكانيكية لا تتوقف، وإنتاجاً لحالة مُتغيرة تُطل على الزمن المُتحرك والمَكان المُتبدل.
بما يُطرح من جَدليات تتنافس تتصارع، معها ومن دونها، هل كانت الحضارة ستُبنى أم ستتوقف عند حدود مُعينة؟ وهل كانت التربية والثقافة لتَنتفي أم ليكون لها عدة أشكال غير التي عَرفتها المُجتمعات، أم كان لا وجود لها اليوم؟.
أسئلةٌ عَبثية تُثار وتُطرح في إطار جَدلي تَنافسي بين المَذاهب الفكرية والفلسفية، لا يمكن أن نَضعه إلا تحت عناوين التَّرف والسَّفسطة بَحَثَت أم لم تَبحث عن النِّدية، وانحرفت أم لم تَنحرف باتجاهات إنكار الآخر وشَطبه، ذلك أنّ غِنى الحضارة الإنسانية بتنوعها وتَفاعلها وبالأشكال التي تتخذها واتّخذتها على مرَّ العصور والأزمان، تتطور ليس من فراغ، وإنما بالبناء على قاعدة السابق واللاحق الذي يَقبل التطوير بأدوات المَعرفة وليس بعيداً عن القيم.
الصحيحُ الذي ينبغي أن يُقال هو إنّ الحضارة الإنسانية الثَّرة هي النِّتاج الطبيعي للتثاقف والتفاعل، لا أحد يُلغي الآخر أو يَنوب عنه، بل يَتكامل الكل، وأما مَزاعم الحداثة والعَولمة الناشئة بدوافع إمبريالية فلا تَنفصل عن جَدليات تُحاول الشطب والإلغاء، وستَكون يوماً سَطراً في صفحة الحضارة الإنسانية، سَطراً ليس إلّا.