| أعمدة من ورق «15» ثقافة كل شيء أسود وحين تنقطع الكهرباء لن ترى إلا الظلام الأسود ولو في عزّ الظهيرة.. قبو عميق ليس في المبنى الذي تشغله إدارة الثورة وجهاز التحرير.. بل في بناء مجاور.. أمتار قليلة عن الحميدية.. الحريقة.. باب الجابية.. السنجقدار.. سوق الخجا.. وأيضاً خلف القصر العدلي.. هنا يلتقي أبطال حقيقيون لطباعة الصحيفة.. لا أعتقد أن أحداً منهم خرج من ذاك القبو إلا وقد طغى التسمم من أبخرة الرصاص على دمه بما لا يسمح به علم أو قانون.. رجال بلباس مهما كان لونه فقد تحول للأسود.. أيديهم ملوثة بالأسود.. ووجوههم.. وكاسات الشاي التي يستخدمونها دائماً ولا سيما أنهم كثيراً ما يتناولون الطعام في المطبعة، سواء استحضروه من منازلهم «زوادة» وهو الغالب أم استقربوا وبين الحميدية والحريقة وباب الجابية كل ما تشتهي النفوس وتستطيب الأرواح. أصواتهم مثل هممهم عالية.. أقوياء يعملون دائماً.. يعملون كثيراً.. يستجيبون لتطورات العمل الصحفي.. صبورون بلا حدود.. دائمو المزاح والضحك.. لا ضريبة على الكلمات المختارة. هنا تصنع جريدة الثورة.. وهم صناعها. تصل إليهم الكلمات أوراقاً مشطبة مجعلكة رسمت عليها كل أمزجة الصحفيين وهم القدرة الخلاقة التي تحولها إلى صفحات جريدة. لعلي نسيت كثيراً من الأسماء.. لكنني لم أنسَ وجهاً واحداً من وجوههم.. عبد الهادي البارودي.. وشقيقه محمد عطا.. ياسين عزام.. محمود ركاج.. محمد خير كببي.. خير الدين كوكش.. فهيم عيسى... ياسين حبال.. ياسين الزند.. حسن دالاتية.. وغيرهم. على الأنترتيب والترتيب.. وليسامحني من نسيت اسمه.. سمعان الدبس ومن يساعده على آلة الدبلكس «برولها» العريض ضعف طول «الرول» الحالي. محمود صقور.. البسيط.. الطيب.. الصادق.. الفقير على فرن الرصاص الذي قضى عليه وسبب له أمراضاً لا يشفى منها، علماً أن إدارة الصحيفة كانت قد تعاقدت لهم مع طبيب أمراض مهنية اعتقد اسمه محمد ديب الدشاش.. إلى هذا الجو المشبع بالحبر والنفط وأبخرة الرصاص.. المفعم بالعمل والحب والصداقة.. دخلت محاولاً جهدي أن ينتابني شعور الموظف لأول مرة في حياتي. 24 نيسان 1967.. وقد سبقني قرار تعييني مراجعاً براتب شهري قدره 210 ليرات.. والتوقيع لطيب الذكر أمد الله في عمره محمد الجندي. دخلت من باب قبو لم ينقذني قصر قامتي من ضرورة الانحناء كي لا يصطدم رأسي الشاب المملوء بالشعر بالعتبة، ثم إلى غرفة صغيرة فيها ثلاث طاولات.. وأشخاص.. بعضهم على المكاتب وبعضهم على كراس عتيقة وكل ما فيها عتيق.. الغرفة هي مقتطع من الفضاء العلوي للقبو «سقيفة».. جدرانها بلورية تطل على المطبعة بكاملها.. هنا تتم عملية تصحيح الأخطاء المطبعية واللغوية.. وهنا سيكون عملي مع الذين سأتعرف إليهم.. أذكر منهم.. عبد العزيز مسوتي.. مصطفى المير.. سليم ديوب.. جادو هنيدي.. علي ديبو.. وآخرين. وفي ضيافتنا دائماً أو نحن في ضيافتهم حراس المطبعة.. نايف عبدين «أبو مصطفى» وكان أكثر شهرة في المنطقة حتى من محال نذير هدايا المجاورة. صديقه الحميم ابن بلده «السلمية» أعتقد أن اسمه مصطفى زينو «أبو غياث».. ورجل كبير القطعة شديد الوقار طيب الحديث متقدم في العمر اسمه خضر مصياتي.. وكانت ابنة أخيه «على ما أعتقد» التي تنافسه في الوقار «كفى مصياتي» تعمل في المالية. وأنا.. دخلت وحدي.. عرفوني من شكلي.. شقيق مدير الشؤون المالية.. وكان ذلك كافياً لاستقبالي بالشاي شديد الحلاوة طيب الطعم.. وبدأت الحكاية.. أقول لكم.. حتى ذاك الوقت لم أكن صدقت النبوءة أو وثقت بها.. لم أكن أتوقع أن أمضي من حياتي 43 سنة – حتى الآن- هنا في «الثورة».. لكنه قدر وحكم.. وحب وتحكم. أكثر من مرة هممت أن أغادر.. لكن كان ذلك مستحيلاً تماماً. أنا من النوع الذي يغرق في عالمه فينسى ما حوله. وبين كلمة وابتسامة أصبحت الثورة عالمي.. وكانت الحكاية. لم يكن عملنا صعباً، لكن جونا جو مطبعة.. لم يكن دوامنا طويلاً لكنه قد يطول.. تأتينا المواد الصحفية على شكل «بروفات» أخذت بطريقة يدوية عن طريق دلك الأسطر الرصاصية بحبر سائل ثم تمرير عجلة عريضة فوق ورقة وضعت فوق الأسطر المدلوكة بالحبر.. ومهمتنا منع مرور أي خطأ مطبعي أو ما شابه. لكن.. في الحقيقة كثيراً ما كانت تمر الأخطاء.. وحتى اليوم تمر رغم أننا صرنا في عصر الكمبيوتر. في قسم التصحيح هذا بدأت التعامل مع المحررين بشكل عملي.. تأتينا موادهم موقعة بأسمائهم ونتعامل معهم من خلال هذه المواد. أول من زارنا في «سقيفة» التصحيح وتعرفت عليه هو المرحوم «وليم مسوح».. ثم كثرت الزيارات.. أول ما أعطيت لنفسي اعتباراً أسعدني .. عندما تساءلنا عن كلمة لم نعرف قراءتها وقالوا لي: اتصل بالمحرر.. كانت المادة للأستاذ خلدون الشمعة.. وقد هب مباشرة بعد أن حادثته هاتفياً بالالتباس الحاصل وحضر إلينا.. كان جميلاً لطيفاً.. يتأبط حقيبة صغيرة.. قد أظهر اهتماماً لفت نظري إليه كرجل يهتم كثيراً بعمله.. استطاع اللقاء الذي دام ما يزيد على دقيقتين وربما ثلاث أن يشعرني بالفرح بقية اليوم. وتتالى ترصدي للمحررين واصطيادي للفت انتباههم بأي شكل كان.. علّي أحظى بصباح الخير.. أو مرحباً.. أو سؤال عن أي شيء يرغبون. عندما درست الصحافة في ألمانيا، ورويت لمديرة المعهد هذا الشعور الذي كان ينتابني تجاه محرري الجريدة قالت لي: هذا مؤشر كبير على نجاحك بالعمل الصحفي.. لقد اخترت أن تكون طالباً مهتماً فرأيت فيهم أساتذة وستتعلم منهم الكثير. بعد ذلك بخمسة عشر عاماً دفعت ثمن أن أعلن في صحيفة الثورة أن صحافتنا بلا مواقع لأنها بلا أساتذة. كان جيل يحسن عدّ النقود قد دخل إلى العمل الصحفي «ويا أرض اشتدي.. لا أحد قدي».. لماذا الإسراع إلى النهاية.. دعونا نمض مع الأيام.. فإن هي إلا أعمدة من ورق. a-abboud@scs-net.org
|
|