لكنها في المجمل تعكس على الأقل بعض النيات وإن أضمرت أهدافها، وتترجم إلى حد كبير جزءاً من غايات وإن لم تفصح عنها.
في الأدوار المختلفة كانت الدبلوماسية الغربية تعتمد بصورة لا لبس فيها على تورية سياسية أبعد بكثير مما أظهرته حتى الآن، وإذا كان ذلك واضحاً في ملامح الصيغ والمفردات المستخدمة، فإنها في الممارسة جاءت أكثر وضوحاً، ليس لرغبتها في إعلان ذلك، إنما لافتقاد المبرر الأخلاقي والسياسي على حد سواء لذلك السلوك.
فقد واجه الدور الأوروبي على مدى عقود خلت تحجيماً جلياً، شغل خلاله مساحة الكومبارس الخارج للتو من بروفته الأخيرة, واعتادت أوروبا على ذلك الموقع، وحين حاولت الخروج منه، جاء ذلك على الأغلب بشكل بدائي، بدت هزليته على المسرح الدولي.
الأمر ليس انتقاصاً من موقعها، وهي التي لاقت على الدوام تشجيعاً لم يحظ به دور آخر، بل كان هناك إلحاح ومطالب لا تنتهي بأن تستعيد ذلك الدور في المشهد الدولي بما يتناسب وجغرافيتها السياسية.
لكن في أغلب الأحيان لم تكتف بأنها أوكلت أمرها إلى الموجه الأميركي، بل أيضاً ارتضت أن تكون تابعاً فرضياً يفتقد لأي استقلالية، وقبلت معه كل أشكال الترضية التي عرضت عليها أو فرضت .. لا فرق.
والسؤال ربما .. ما الذي أيقظ جماح أوروبا فجأة، وما الذي أخرج أطماعها من قمقمها المغلق بإحكام منذ عقود.
الإجابة هنا ربما تقدم تفسيراً لبعض الأسئلة المعلقة التي لا تكتفي بأنها نتيجة إيقاظ الأطماع الاستعمارية، بل تمتد أبعد في عمق السياسة الأوروبية التي واجهت عقماً سياسياً في كل أدوارها، وقبلت أن تركن في زاوية مهملة غالت في قبولها بها، وحتى دون اعتراض.
وفي الوقت ذاته فإن أي إجابة أخرى تواجه عجزاً حقيقياً عن فهم خفايا هذا الهذيان الأوروبي الذي مارس طقوسه العبثية مراراً وتكراراً.
في الموقف المفاجئ من ليبيا قدمت أوروبا سذاجة سياسية غير مسبوقة في تبرير حماسها.. وفي التعامل مع مختلف مستجدات الوضع في المنطقة العربية لم تقدم إلا كل ما يؤكد طفولة سياسية، وفي بعض الأحيان مراهقة سياسية لم يكتمل نموها بعد.
وفي الوضع السوري كانت المراهقة الاوروبية على أشدها.. والهذيان في أعلى مراتبه.. بل يواصل نوباته صعوداً وهبوطاً بتواتر يراكم من الأسئلة.. ولايقدم أي إجابة.
فجاء اشباع رغبات وسائل الإعلام في سماع الصوت الدبلوماسي السوري في ظرفه وحينه، وان كانت الكثير من المواقف لاتحتاج الى جهد كبير لإيضاحها وهي الواضحة من أساسها.
لكن حين تكون الدبلوماسية ضرورة لإعادة ترسيم المشهد وفق بنيانه الطبيعي، فإن ذلك يكون منطلقاً لفعل أبعد من دائرة مؤتمر صحفي يجيب على الأسئلة المؤجلة.. ويستجيب للحاجات المستجدة..
في الممارسة السياسية الاوروبية كان ارتباطها العضوي مع أميركا جزءاً من عملية التورية التي تُمارس على نطاق واسع، وربما أحد عوامل النفور السياسي من نوباتها المضطربة.
فالأصل فيها أن تؤدي بالضرورة الى خدمة المصالح.. والأصل أيضاً أن تعطي صورة واضحة عن التموضع الفعلي لتلك المصالح، لكن حين تمارس دوراً تضليلياً مشبوهاً يبدو الاستبعاد ضرورة لاغنى عنها، وفعلاً سياسياً بامتياز نحتاج إلى إبرازه.
والنقاش هنا ليس على المستوى الأوروبي فحسب، بل يمكن له ان يمتد أبعد من تلك المساحة التي تخرج عملياً من الحسابات السياسية، ولو إلى حين أو لبعض الوقت، ريثما تنتهي نوبة الهذيان الأوروبي، رغم عدم إيماننا بالاستبعاد.. لكنه حكم الضرورة.. على أمل أن يتعافى ولو قليلاً.
a-k-67@maktoob.com