تلك المفارقة تحصل فقط في ظل النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية, لأن المرء يصاب بالدهشة لو أنه قرأ هذه التفاصيل في تاريخ إحدى الحقب المندثرة, أو لو أنه سمع بها عن امبراطورية من الامبراطوريات التي طواها التاريخ. .!
المأساة الحقيقية أنها تحصل في القرن الحادي والعشرين, والجميع يتابع ويسمع تفاصيل المهزلة التي يصوغها عتاة الحرية والديمقراطية في العالم, ويسوقها دعاة التقدم والإنسانية.
والأمر لا يقتصر على المطالبة المالية التي تتجاوز الملياري دولار, بل ثمة من يبحث عن أسلوب يشكر فيه إسرائيل على انسحابها من قطاع غزة, في خطة فصل أحادية, تشير بوضوح إلى أن الدافع الفعلي لها هو المأزق الذي وصل إليه الاحتلال, وليس الرغبة في إنهاء الاحتلال الذي طالبت به الشرعية, والذي هو حق لكل الشعوب, لابد من أن تناله في نهاية المطاف.
وفق هذا المنهج لا يكتفون بالمكافأة على الاحتلال, بل أيضا يرغبون في تكييس وجه الهزيمة المعلنة, ويريدون أن يجدوا المخرج اللائق الذي لا يمس المحتل بالأذى المعنوي, نتيجة اضطراره للانسحاب من غزة بسبب المقاومة ,ونضال الفلسطينيين وتضحياتهم عبر انتفاضتهم المتواصلة.
هذا على الأقل ما يمكن استنتاجه من المماحكة التي يدخل فيها الإسرائيليون مع كل الوفود الدولية التي تزور فلسطين المحتلة, وكان آخرها المنسق الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية خافيير سولانا, حين طالبه الإسرائيليون بتقديم دعمه, بل وكاد أن يصل حد الشكر والامتنان على الخطوة الإسرائيلية التي جاءت في ظل تدافع المفارقات السياسية من كل حدب وصوب.
الأولى تتصل بموافقة الحكومة الإسرائيلية على الإسراع ببناء جدار الفصل العنصري لعزل القدس في الذكرى السنوية الأولى لقرار محكمة العدل الدولية باعتبار الجدار غير شرعي ومطالبتها بوقفه.
والثانية تتعلق باستهجان سيلفان شالوم وزير خارجية شارون أن يلجأ الفلسطينيون للأمم المتحدة للاعتراض على القرار الإسرائيلي, واعتبار ذلك ابتزازاً للإسرائيليين, وهو استهجان, لا يحتاج إلى شرح أو تعليق أو توصيف.
أما الثالثة فترتبط بالموقف الأميركي الذي عجز حتى اللحظة عن انتزاع أي اعتراف إسرائيلي أن هذه الخطوة تأتي في إطار خارطة الطريق, وبالتالي لا بد من خطوات أخرى لاحقة تتعلق بالانسحاب من الضفة الغربية والقدس.
وسط هذه المعطيات تحاجج حكومة شارون, وتحث الآخرين على دعمها, وتبتز أغلبهم لنيل قبولهم بخطواتها, والموافقة على تصوراتها, وكأن العالم أضحى مجرد أداة لمباركة ما تقدم عليه إسرائيل, ولتقديم المكافأة والتعويض والشكر لأنها اضطرت للانسحاب?
والسؤال الذي يبدو ضرورة ملحة وسط هذا الصخب الإسرائيلي المتعالي, وذلك الضجيج المفتعل حول انسحابها, هل وصل الانقلاب في المعادلات والمفاهيم إلى هذا الحد, وهل باتت السياسة الدولية ومواقف القوى الفاعلة بها رهينة الأوهام التي تصدرها ماكينة الابتزاز الإسرائيلي, والأخطر هل وصلت حدود التحدي الإسرائيلي للمجتمع الدولي ومنظماته, إلى درجة توقيت قرار الإسراع في بناء جدار الفصل العنصري مع الذكرى السنوية الأولى لقرار محكمة لاهاي?!
من الصعب فهم هذا التردي في مناخ العلاقات الدولية إلى مستوى القبول بالمنطق مغلوطا ومقلوبا إلى هذا الحد, ومن الخطورة مسايرة الإسرائيليين من قبل بعض الأطراف الدولية والذي يشكل غطاء سياسيا على الإجراءات الإسرائيلية المرفوضة من الشرعية الدولية.
ويبقى الأخطر من كل ذلك, أن تتحول كل تلك المفارقات إلى مجرد تباين في الرؤية, أو اختلاف في التقويم, ونحن نشهد انقلابا هو الأكثر كارثية حين يصل الأمر حد التواطؤ في تكييس الهزيمة!.