وثمة من اعتقد أن العصر الأميركي الذي غيمت تباشيره في أفق المنطقة هو الملاذ الوحيد للخلاص, فوضعوا أوراقهم في سلته دفعة واحدة, وبدت نجوميتهم مرتبطة بصعوده وهبوطه, تسطع حين يخرج المارد متكئاً على عظات الشعارات البراقة, وتخفت حين يصطدم بالواقع المتناقض مع تلك الشعارات.
غير أن الأخطر من هذا وذاك ما اعتبره البعض سيادة مطلقة لذلك العصر, بما يعنيه ذلك من انحلال فكري واضمحلال سياسي لكل من ارتضى لذاته ونفسه, أن يدور في حلقات هامشه السياسي, دون أن يقترن ذلك الحد الأدنى من إدراك المتغيرات التي عادة ما تكون مرتبطة بالمتحول السياسي الذي نشهد اليوم الكثير من سماته.
فالأمين العام للأمم المتحدة يقول إنه لا يوجد أي مشتبه سوري في جريمة اغتيال الحريري, والقضية ليست في أهمية الإعلان الذي يصدر عن الرجل الدولي الأول, بل هي في المكان والزمان, حيث الزمان بعد لقائه وزيرة خارجية أميركا كونداليزا رايس والمكان واشنطن.
كل هذا ألا يعني شيئاً لأولئك الذين أقاموا المحاكم ونصبوا أنفسهم قضاة ومحامين وشهوداً وهيئة محلفين تيمناً بالعصر الأميركي? ثم ألا يحتاج ذلك إلى مراجعة للخطيئة والارتكاب الذي اقترفوه?
لا أحد ينتظر من الذين استسهلوا المتاجرة بأنفسهم في سوق السياسة أي موقف غير الذي أجادوا القيام به, ولا أحد يعتقد أن الذين استهانوا بالتاريخ وتجاربه وأحكامه أن يمتلكوا الحد الأدنى من ملكية المحاكمة, لذلك نراهم اليوم متمسكين بالوهم, ويتشددون في محاكاة مغلوطة وخاطئة لكل ما يجري وما سيجري في المدى المنظور.
من هنا تبرز إلى العلن أسئلة تتعلق أساساً بكل ذلك الطابور الجاهز للإنشاد في الاتجاه الذي تبيح لهم السياسة الأميركية الإنشاد فيه, هذا إذا لم تجد لهم دوراً آخر يستفيد من طاقة النفخ في أبواقهم, ويوظف أصواتهم في مهام أخرى.
على أن ذلك لا يشكل أكثر من مرحلة أولى بعد أن أسقطت الكثير من أوراق الاتهام والكثير من أدوات المتاجرة, ولاسيما بعد أن بدت الرياح التي ساقوا بها تتجه بشكل مغاير ومناقض لكل ما رسموه, وفي مقدمته المتحولات التي ترافقت مع انتهاء لقاء ميليس مع عدد من السوريين, وآلية التعاون التي أبدتها سورية.
إن المسألة لا تتعلق بخطأ استنتاجات سياسية أو بعدم الصواب في التحليل, بل ترتكز على آليات من التخطيط المبرمج والمسبق وانخراط أولئك في تنفيذها, والتورط في الانسياق وراء الحملات المشبوهة التي يدركون مسبقاً أهدافها.
والمفارقة أن أولئك لم يتعلموا من الدرس, ولم يبدوا أي رغبة في التكفير و التصحيح لمواقفهم, ولا نزال نرى في الأفق ملامح تحوير في الأدوار والمهمات, وذهاب البعض إلى حد الإعداد المسبق لذلك, وتهيئة الأرضية السياسية التي تسمح لهم بإعادة تقمص الأدوار كما هو مرسوم.
هذا على الأقل ما يمكن استنتاجه من التطورات الأخيرة, وتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة فتحت الباب على مصراعيه أمام تلك التداعيات, ورسمت من جديد مشاهد لم يكن يتمناها الكثيرون.