حين لا تستطيع مغادرة نفسك لتطل على الحياة الحقيقية للناس في الشارع, وحين تنظّر علينا من برجك أو من خلف أسوارك, أو من وراء قناعات مثالية, فأنت تعيش بيننا في منفى قد يكون أبعد مما لو كنت في آخر نقطة في العالم!
ثمة من نسي وجه مدينته لطول غياب عنها, وهو فيها, وقد ينطبق عليه قول أورهان باموق في رائعته - اسمي أحمر - «إن الإنسان لابد أن ينسى الوجه الذي لم يره مهما كان يحبه» والمفارقة هنا أنه يرسم للمدينة وجهاً آخر!
قد يعيش الكاتب حالة المنفى حتى داخل اللغة, لأنه باحث دائم عن موطن آخر لوجع مجتمعه ووطنه, ولكن لماذا يشعر الناس هذه الآونة بالاغتراب داخل الوطن؟!
أليس موجِعاً وممزِقاً أن يتحول الوطن إلى أوطان! والمكان إلى أمكنة! والمدينة إلى مدن! والشارع إلى شوارع! أليس الإحساس بالمنفى والغربة هنا أشد قسوة من ضياعٍ بين شاطئين متباعدين, ولا جسر عبور بينهما!
«كان طموحي الأعظم هو ألا أترك للموت شيئاً يأخذه... لا شيء إلا القليل من العظام»! هكذا قال كازانتزاكي, فلماذا نترك للموت كل ما نملك من رصيد الحياة, وكيف لأحد أن يستولي على نصيبي من الحياة قبل أن أتمكن من صرفه والاستمتاع به! كيف يتحول بعضنا إلى ذلك الرجل الشبحي الطويل الأسود الذي يحمل بيده منجلاً ضخماً يحصد به الأرواح التي لم تستنفد حصتها من الحياة بعد!
ثمة من يجبرك اليوم على النكوص إلى منفاك الداخلي, قبل منفاك المكاني حتى لو كنت بين أبناء الهوية الواحدة, وعلى أرض الوطن الواحد.
suzan_ib@yahoo.com