| سورية الجميلة.. رسائل الحب الستيني (94) ثقافة ويعترف بصراحة مقدراً خطورة تصريحه: لم أشعر بفيض من حب، ولا حتى إثارة.. كان كل شيء بارداً، حديث رجل شرقي يقرأ من محفوظاته وليس مما أمامه.. وصمت امرأة شرقية لا يعنيها كثيراً حتى ولو صدّقته.. وبكسل تمر الساعة التي جاء هنا ليلتقيها فيها. - هل تظنين أننا قد نتحابب يوماً؟! < بالتأكيد لا.. عندما بكى العسلي راضته زهرة بابتسامة ولمسة حنان وقالت: < يا عسلي أنت شايف.. هو صياد وصديق براري وراوي حكايات يرى كل شيء.. والآن من أين سيروي؟.. وكيف سينصتون إليه في ليالي الصيف القائظ أو خلال عواصف الشتاء؟! زهرة ليست كادراً في ما يرى.. ولا بطلة قصة فيما يرويه.. يمرر أحياناً كلمات ذات معنى.. يتوهم أنها الوحيدة التي تلقت الرسالة.. يبتسم السامعون بسرهم.. ولا يجرؤ على الخروج عن النص إن حضر أبو ميهوب. أبو ميهوب ليس ناشر فضائح.. لكن.. ليس لديه أي شعور بأن ثمة ما يحظر قوله.. صاحب خطايا أعلن عن خطاياه وارتاح.. وتحول إلى ساخر من جهد الناس للتستر على خطاياهم.. بل.. على مشاعرهم. - ياعسلي أنت شايف.. وبطلقة نظر واحدة من عينيه يكشفها من جبل الأقرع إلى جبل عكار.. سهل وجبل وبر وبحر .. وإلى «الشعرة» شرقاً.. مروراً بكل الطرقات والسواقي والوديان والجبال.. بل روى كثيراً عن رحلات المغتربين، كان يرى ما صادفهم لشدة بصره. هو مستمع إن روى غيره.. يستمع جيداً ، يسمع خبطة قدم زهرة من النهر إلى الضيعة وكثيراً ما أسرع إليها. يروون: عند «النامورة» كان العسلي نازلاً إلى النهر مسرعاً وقد غابت الضيعة عن ناظريه وغاب عنها. ويسألون: كيف عرف أن زهرة عائدة من النهر؟! أقسم العسلي أنه سمعها تلهث تحت تنكة الماء منذ رأى رؤوس شجرات الحور الباسقة البعيدة وسمع همس النسيم لأغصانها. لم يصدق كل من سمع الرواية أن العسلي أخذ تنكة الماء عن كتف زهرة كي يحملها عنها.. الطريق محجر محفر صاعد مليء بالغبار وزهرة تحت تنكة الماء وجه أحمر وحبات عرق ورجلان تنوءان في تسلق هذا الطريق.. وعلى جانب الطريق تتطاول بقاماتها، وتمتد أفقياً شجيرات سنديان وبطم فتصنع ظلاً كثيفاً عند هذه الميلة فتشتهي الروح استراحة. لم ير أحد العسلي وزهرة جالسين في الظل.. ولم يره أحد يحمل تنكة الماء صاعداً باتجاه القرية. قالت مريم الصدرية، وكانت تسمعهم يفندون حكايات. - يا حسرتي عليكم.. لو كان لكم من تحبون.. لما سطت عيونكم وألسنتكم على المحبين.. < يا عسلي أنت شايف.. وعلى مدى الأفق وفي عمق الأرض لم ير إلا بعينيها.. لم يرض إلا برضاها. لم يضحك إلا إن أضحكها.. كيف يستطيع أن «يشوف». يضيف: انتهى اللقاء بيننا دون وعد أن نلتقي ثانية.. ومحصلة القوى والمحرضات صفر.. لكن.. شعرت جانحيّ مبتلين إذ خرجت من بحر عينيها.. واعترفت لها بسحر لقاء مع زاوية الفم.. ومضيت.. ومضت أيام.. أسابيع.. شهور.. وحولي من الطيور الكثير.. لكني اشتهيت الغوص في عيني السنونو.. أبو ميهوب كان يكره السنونو جداً.. لا يحب حركاته في الطيران ذات اليمين وذات الشمال.. ولم يهوى صوته الضعيف بلا معنى.. ولا لونه الأسود.. ولا رحيله عن الدنيا من حولنا كلما جاء الشتاء.. قال العسلي: - السنونو طائر جميل. دائم الطيران.. سريع وخفيف الظل ولا يؤذي أحداً.. قال أبو ميهوب: < عديم الفائدة مثلك. - يا أبا ميهوب.. السنونو ذكي جداً، يهاجر ويعود.. حتى صغاره التي ولدت وهاجرت تعود إلى أعشاشها من أقاصي الأرض.. < حكي.. كله حكي.. قضيت عمرك حكي.. - أكرمنا الله إذ خلقنا نحكي. < مبروك عليك.. احكِ. حركة طيران السنونو صورت لي حيرتها تيهاً.. وبيانها باستحالة أن نتحابب جعلها قصية المنال.. وبين رموش العين وزاوية الفم أدركني الحب.. قالت: - كنت تبحث عن امرأة.. حاولت أن أنفي.. لدي كل مقومات ودلائل وبيّنات النفي.. النساء كثيرات.. لم أكن أبحث عن امرأة.. فيما بعد شعرت بمفعول رجعي أنني كنت أبحث فعلاً عن مرأة.. وبها ومعها اكتشفت المرأة في كل شيء. ما الذي كان يراه العسلي ؟! أمضى عمره يروي الحكايات ليجيب على حيرة زهرة: < أنت شايف يا عسلي.. أمضى عمره يحاول أن يرى ما أمرت به. لم يجرؤ يوماً أن يقول لها: أنا لا أرى شيئاً.. كان يحتاج للامبالاة أبي ميهوب.. أما هو فمن أين له القوة أن يشوف أو لا يشوف.. من الأقرع إلى عكار.. من البحر إلى الشعرة.. قصص للحب وروايات جمال.. ولم يعد يرى إلا وجهها.. وعجز أن يروي إلا لها. وهي: < أنت شايف يا عسلي.
|
|