أنك تفتح النافذة فتخاف من طلقة قناص
أو ترى شابا بعمر المستقبل الذي كنا ننشده يركب عجلة من دولابين ويجرهما إلى آخر الألم.
وقد ترى صبية جميلة تسدل ليلها على عينيها لأن شظية أصابتها في الجامعة فتعطلت الدروب في قدميها وأغلقت الكتب أبوابها في وجهها ولم يبق لها إلا أن تجرها أمها مابين المنزل والسوق وهي تهمس لها احذري هنا حفرة.. انتبهي سننزل رصيفا وسنصعد ألماً وسنتجه شرق الخراب.. انتبهي وكيف ستنتبه والضوء فارق عينيها وهي ترى الآن بعيني أمها ..لكن عندما تبكي الأم وتغمر دموعها في حلم قاس لا تسمح لابنتها الصبية أن ترى.
أحيانا نقول هنيئا للذي لا يرى وربما نقول كلنا لا نرى وكلهم بحاجة إلى مصباح ديوجين..
بل كلنا معطلون عن الرؤيا لأن ما يجري لا يندرج في صفحات العقل ولا في صفحات الكتب... لقد نضب الحبر ونضبت الأفكار ولم يعد من متسع إلا للرصاص .هو الذي يكتب على جلودنا المحروقة كأشجار لسعها برق السماء فحولها إلى عمود فحم اسود.
ويحزنك.. أن العقول سوداء والقلوب سوداء ونافذتك هي ذاتها واقفة بين الظلّ والظل وعليك أن تعبر من ظلّ إلى آخر لكن الموت أقرب من رفة العين للعين.
على كل حال هي نافذة.. افتحها وقف قليلا لتتأمل المشهد.. صوت الطائرات يهد السمع.. صوت الطائرات لا يسمح لك أن تسمع صراخك الداخلي ولا الخارجي، تشعر بأنك كالمستجير من الرمضاء بالنار.. تطن أذنك ويملأ رأسك دوي هادر.. تتراجع إلى الوراء.. النافذة تصبح كوة في الجدار.. ألا ترى أن الجدران تتوالد وتتكاثر .كأن مال الأرض كله تحول لبناء جدران.. جدران فاصلة وجدران عازلة.. وجدران للهروب خلفها.. وجدران للستر.. وجدران للقنص.
يحزنك أنك كنت تحلم بزوال الحدود بين الدول الآن تطمح لأن تزول الجدران بين الحارات.. أو بين الجيران.. وربما بين الأخوة.. اليوم تعلو الجدران لدرجة أن هذه الجدران دفعت بشاب من الرقة ليذبح أمه الساحلية .وكما ذبح شاب دمشقي خالته ذبح سعودي أمه وأباه وأخاه. ويعبرك السؤال. ما هذه الجدران ومن أي شيء مصنوعة؟
يحزنك أن تشعر بأنه عليك إغلاق النافذة.. هناك رجل يراقبك.. وهناك عيون تترصدك.. كنت تود أن ترفع يدك بالتحية.. هكذا كانت النوافذ المتقابلة والمطلة.. الآن عليك أن تبتعد وأن تسدل الستارة.. وأن تفكر كيف ستجد بيل الكهرباء لتضيء ممرات المنزل، فأنت لا ترى إلا الظلام.. تصطدم بالكرسي وتسقط على الأرض.. تتلمس أرض المنزل الباردة.. كم تحب هذه البرودة ولكن إلى متى تظل في العتمة؟
أهو البلد كله في العتمة الآن ؟ تتساءل بحزن.. أنت تعرف الجواب وتعرف أنك في زمن العتمة وأن حربا عالمية تدور الآن على أرض بلدك أردت ذلك أو لم ترد هي حرب مفروضة عليك.. هي حرب الآخرين في بيتك وأمام نافذتك.. وها أنت الشاهد طالما أنك تملك نافذة تطل منها على شارع يركض بين الأشلاء ويرتدي ثوب الدماء .تعبرك في اللحظة أم تجر أطفالها وتمد يدها للعابرين.. متى كانت المرأة السورية بهذه الصورة؟ تود لو تصرخ لكن صوت طائرة حربية تشق السمع والهدوء وتنطلق بعيدا.. تضم المرأة أولادها خوفا من رعد الطائرة التي راحت تبتعد.. المرأة تبتعد.. ويبدو أن الوطن يبتعد.. علينا أن نركض خلفه حتى لا يضيع.. تهم أن تخرج فعلا لتبحث عنه.
يحزنك أنك وحيد في الشارع.. العتمة تغطي كل شيء.. ويحزنك أنك لم تستدل على الوطن.. هذا الذي ينزف دما ليس وطنك.. وهذا العاري الجائع ليس وطنك.. وطنك غير هذا كله.. كيف ستشرح لنفسك هذه المعادلة؟
تدخل نثرات حصى في حذائك المثقوب، مسمار يخترق الأصابع.... تتابع السير دون جدوى، الجميع يبحثون عن وطن.. بعضهم تاه.. وبعضهم هاجر.. وآخرون رجعوا يتأملون نوافذهم المفتوحة على كل الاحتمالات.
يحزنك أن تؤكد للذين هاجروا بحثا عن وطن بأنهم لن يجدوه لا في الغربة ولا في الوطن.. لقد تغيرت النوافذ.. وتغير المدى المقابل وسيظلون غرباء للأبد.