وحمص ما زالت بعيدة، ومؤتمن على ضيفنا يجب أن أوصله إلى اللاذقية وأعود به بسلام... بالنسبة لـ «الغيطاني» كانت المرة الأولى التي يواجه فيها ثلجاً وليلاً عاصفاً وشتاء قارساً..
وبالتالي هي بالنسبة له دهشة واكتشاف وفرصة لا تفوت..
بالأصل هو الذي رغب بالمشوار تحت عنوان المغامرة، الغروب يقترب، والطقس ينذر ونحن نتداول حول موعد المغادرة من دمشق إلى اللاذقية.. فضلت أن التأجيل حتى الصباح.. وعرض هو رغبته بشكل مهذب لكنه واضح: دعنا نخضها مغامرة في هذا الليل.
نزلت عند رغبته، وكان أول لقاء لي به.. وأعترف أنني أعجبت به.. شاب مصري أسمر مليء بالبحث، يزاول الصحافة والأدب، حضر إلى دمشق لإجراء تحقيقات حول مجريات حرب تشرين 1973 وكانت قد وضعت أوزارها للتو.. بل إنها على الجبهة السورية ما زالت مستمرة وعرف استمرارها بحرب الاستنزاف.. في حين سكتت المدافع على الجبهة المصرية، وبدأت تلوح في الأفق أسئلة مريبة، بل مرعبة عن حقيقة ما جرى ويجري.
لم تدم الدهشة طويلاً.. فقد تباطأت حركة العربة «جيب صالون لاندروفر عسكرية» نتيجة الثلوج والرياح والليل، فمن الذي لا «يختشّ» قلبه.. فقط سائقنا المؤمن «أبو علي».. التفت إليّ الغيطاني وسألني: كم بقي من الوقت كي نصل اللاذقية.. بصراحة كان الوضع محرجاً فنحن لم نصل حمص بعد.. الطريق بعيد والدنيا ليل... ولعلي تعاطفت معه رغم حنقي المكتوم إذ بناء على طلبه كانت رحلتنا ليلية وليست صباحية..
- ما رأيك أن نبيت في حمص ونغادرها صباحاً إلى اللاذقية؟.
< هذا أفضل بكثير..
دخلنا حمص - مدينة المواعيد - وكانت عقدة مرور تتوسط سورية لتستقطب معظم خطوط النقل.. لكن.. بدت كأنها مهجورة... حتى عندما بحثنا عن مقهى كي يمارس الضيف رغبته في تدخين النرجيلة «الشيشة» وجدنا مقهى واحداً أمام ساعة حمص وكان «يضب» كراسيه..
في المقهى ثم في الفندق والمبيت في غرفة واحدة.. تعرفت عليه بشكل أفضل فأحببت المشوار حتى الجزء الذي مضى منه - للحب مفعول رجعي - عندما بدأت روايات الغيطاني تنتشر في محيط الأدب العربي.. فسّرت حركات وأقوالاً أخرى سمعتها منه في ذاك المشوار..
في الصباح توقعت أن يطلب مني أن تكون تتمة المشوار سريعة كي نعود قبل غروب الشمس.. لكنه طلب مني أن نختار طريقاً تتيح له رؤية الريف السوري.. واخترت دون أن أتعمد.. ريف صافيتا وما حوله، هي البقعة التي تصل بين حمص والساحل.. كان صباحاً مشرقاً بعد ليل مطري ثلجي.. وكل ما في الدنيا بهي متألق، الشجر والحجر والمخلوقات والبشر.. تلاميذ وتلميذات المدارس.. العمال والفلاحون والبيوت التي نمر بها.. أصوات البرية.. كأن الدنيا أعدت مهرجان جمال لاستقبال جمال الغيطاني.. أو ربما لاستقبالي.. فأنا من قبل ذاك اليوم أعيش لوثة هوى الأمكنة.. لكنني اكتشفتها عندما عرفتكِ.. إذ أصبحت أبكي حباً عند المفارقة وعلى الطرقات وأمام مشهد البوادي والغابات والتلال والأنهار.. والبحر.
أسعدني دور المرشد السياحي، لكن ضيفي الذي لم تخف عاصفة مساء أمس ومبيت ليلة حمص.. وروعة ما نحن فيه، خفة دمه المصرية الأصيلة، أشعرني بأنني أبالغ بمهمة الدليل السياحي.. عندما مررنا من جانب بستان ترعى فيه بقرة.. التفت إليّ وقال: «أظن دي بقرة؟»..
كعادتنا في دعوة الضيف لتناول الطعام أو العودة في وقت الوجبة، قالت أختي في مدينة جبلة الساحلية الصغيرة:
< تعودون على الغداء..
-حبيبتي أنا معي ضيف..
< أنت وضيفك..
-لن يتركوه دون غداء..
< عندي أطيب.. أتى من مصر كي يذوق طعامي وليس طعام المطاعم..
قال الغيطاني:
< هذا صباح غير عادي..
-أعجبك المشوار؟!
< وأعجبتني مدينتك الصغيرة هذه..
-جبلة مدينة الدراسة الثانوية.. وأنا من تلك القرية على أعلى ذاك الجبل..
لم أكمل إذ خفت أن يقول لي: فلنذهب إلى هناك..
انتهى مشوارنا في اللاذقية بعد الظهر.. لم يكن على تفاهم كامل مع قيادة القوى البحرية.. ولا أدري إن كان ذلك سبب اعتذاره عن الغداء الذي أعد لنا.. لكنه قال:
< أفضل أن نتناول الغداء في بيت أختك..
لقد أغرتني دعوتها لطعام البيت لا المطعم..
أدهشه الطعام.. وبصراحة أدهشني أيضاً... ربما اعتقدت أختي أنها تعد الطعام للمشاركة في مسابقة عالمية.. أو أنها أحبت الغيطاني، حيث اتصلت يوما لتسألني هل هذا الرجل الذي يتحدث على شاشة التلفاز صديقك؟.. أدرت التلفاز على المحطة فوجدته الغيطاني.. قلت: نعم وقد تناولنا الغداء عندك..
< تغير شكله..
-ربما تغير كله..
< أما زلتم أصحاباً!.
-لم أسمع صوته منذ ذاك اليوم..
< لم يأتِ إلى سورية؟!
-ربما أتى لكنه لم يسأل عني..
< اسأل عنه أنت إذن..
فكرت بالموضوع فيما بعد بسنين.. حصلت على رقمه وحدثته وفاجأني بأنه يحفظ تفاصيل ذاك اليوم.. ووعدني أنه سيزور دمشق ولم يفعل حتى الآن.. هذه المرة أنا واثق لو أنه جاء لالتقينا..
-هل أكثر من الكلام؟!
< لا بأس..
-لكنني أتأستذ.. وأحب مهنة الدليل السياحي..
< أفضل من الصمت..
-وفقط..
< أنا أحب كلامك..
-هل أبالغ؟!
< تبالغ بماذا؟!
رويت لها حكايتي مع الغيطاني.. وكيف أسكتني عندما قال لي: «أظن دي بقرة».. نظرت إليّ مبتسمة.. ومن عينيها شع نور أضاء ليالي العمر حتى التي مضت ونوّر الأمكنة فازددت عشقاً وهوىً.