و هذا النقاش الذي يحتدم كلما برزت إلى العلن وثيقة أخرى تسوق وتحت عنوان جديد أو غير معروف , يأخذ بعض الأحيان صيغ اتهام لها مسوغاتها ذلك أن الانتقائية التي أملت تلك الكتابة في ظرف و مشهد محددين تتعرض في الغالب لتبدلات ناتجة عن متغيرات الموقف السياسي و ربما المصالح , و في أحيان كثيرة الأهواء .
و على هذا الأساس فإن الرهان على الأيام لكشف ما اضطرت الظروف إلى التستر عليه محكوم عليه في كثير من الأحيان بالفشل , لأن الانتقائية حين تتحكم بما هو مباح , و ما هو غير مباح , ستدفع إلى كتابة تاريخ وفق تلك الانتقائية , و على مزاجها العام .
و المسألة ليست حكراً على نوع واحد أو محدد , و لا هي مقتصرة , على فترة زمنية معينة , انما يمكن سحبها إلى مساحات أخرى تعمم فيها الحالة , حتى إننا نواجه تاريخاً مكتوباً ومدعماً بوثائق أنتجتها انتقائية فرضت مصالحها قبل أي شيء آخر .
و لعل الواقع السياسي و آلاف المشاهد و الأفكار التي تنسج على منوال و ثائقي أو تاريخي تدفع إلى الاعتقاد بأن تاريخ هذه المنطقة الذي تحاول أن تنتجه وثائق أرشيفهم أو تلك الوثائق التي تخدم وجهة نظرهم , و في معظم الأحيان الوثائق التي يرتؤون الاعتماد عليها دون غيرها, تصنع تاريخاً مشوهاً بل و منقوصاً , و يقدم قراءة سياسية لا تقترب من التاريخ في شيء بل تشكل تعدياً عليه .
و ثمة وقائع في التاريخ تقدم نفسها بوضوح , و تدفع نحو سلسلة من المواقف التي تأتي على شكل قناعات مسوقة , أو أحكام تغيب عنها الحقيقة الكاملة و تحضر بقوة تلك المجتزأة بصور وأشكال توظف لتحقيق مصالح عجزت عنها السياسة فتكون في جوهرها بديلاً من ذلك العجز .
و فيما النقاش يمثل المدخل الفعلي لأي حالة تقتضيها الضرورة التاريخية فإن النتيجة أو المحصلة تبدو مدوية في مخاطرها واستهدافاتها , و كم من حالة شاهدة على تلك النتائج .
فالوثائق التي قدمت لتبرير غزو العراق , و تلك التي يحاولون تمريرها لحالات أخرى تقترب أو تبتعد من تلك الحالة ,تملي ضرورة أخذ المبادرة و تجاوز حالة الاكتفاء بالرفض , فالنتائج التي يحصدها العالم اليوم , و التاريخ الذي سيكتب يوماً عن تلك النتائج لن يقدم على محاسبة أولئك الذين تعمدوا التزوير حيناً و الانتقائية حيناً آخر .
وحين يقبل أي مجتمع بأن يكتب الآخرون تاريخه أو أن يحركوا ذلك التاريخ بوثائقهم كما يشتهون , يصبح من العسير عليه مواجهة الكوارث التي نتجت عن ذلك و لهذا وذاك ثمة حاجة فعلية لإعادة النظر في طريقة كتابته , وفي أسلوب تلقيه , وفي مساحات قبوله .. و الأهم المبادرة في تدوينه اعتماداً على حقائق المنطقة , لاعلى رؤية أولئك لتلك الحقائق .