وبالمقابل يرى العارفون ببواطن الأمور أن الحقيقة في مكان وتصورات ذاك البعض ظنوه في مكان آخر، ومع هذا التباعد نرى أن نضع الأمور إلى نصابها تحديدا للصورة الحقيقية للمشهد الإقليمي وخريطة العلاقات الدولية بعد المتغيرات التي حدثت.
وقبل ذلك نرى أن نذكر ببعض ما مضى وما اختزنه التاريخ القريب، لان في ذلك فائدة لفهم وإيضاح ما نرمي إليه ونريد إبرازه من حقيقة. وفي هذا المجال نبدأ بالمشهد الذي انقلب اليه العالم بعد انحلال الاتحاد السوفياتي، حيث كاد العالم كله يسلم أو يستسلم لأميركا باعتبارها القوى العظمى الوحيدة التي تملك القرار الدولي وتتصرف به، ولم يشذ عن هذا السلوك إلا قلة قليلة جدا نسبيا لا يتعدى تعدادها المئة مليون من أصل ستة مليارات هم سكان المعمورة يومها.
انهم الملايين المئة الذين تحالفوا فيما بين كياناتهم السياسية المتنوعة الهوية و الأنظمة قرروا أن يقاوموا الهيمنة الأميركية و يتمسكوا بحقوقهم الوطنية و القومية و الشرعية و الدينية ، و تساندوا و تعاضدوا فيما بينهم حتى سجلوا في سياق «تمردهم على القرار الأميركي» إنجازات و نجاحات كبرى راحوا يحصدونها بدءا من العام 2000 وصولا إلى العام 2010 حيث قررت أميركا و خلفها الحلف الأطلسي أن تعاقب محور المقاومة هذا بحرب تدميرية اجتثاثيه تغييرية لا تشبه في وحشيتها شيئا من الحروب التي يذكرها التاريخ ، فكانت الحرب – العدوان الذي اسمي «ربيعا عربيا» و هي التسمية ذات الدلالة الكاذبة المعاكسة للحقيقة فالربيع هو للمعتدي و للعرب النار و الدمار كما هو حاصل .
ومرة أخرى يستوعب محور المقاومة الحدث، ويفهم ماذا تريد أميركا من الحريق الذي أضرمته بعد تخطيط عميق، ومرة جديدة يقرر محور المقاومة أن يواجه لأنه رأى وبواقعية وموضوعية أن تكلفة المواجهة مهما بلغت تبقى اقل من تكلفة الرضوخ والاستسلام، ويكفي أن نقول إن تكلفة الاستسلام لن تكون اقل من تحويل المنطقة إلى ممتلكات خاصة لأميركا وجعل ناسها عبيداً عند «السيد الأميركي» مسلوبي الهوية والتاريخ ولا يترك لهم مستقبلاً يحلمون به أو حاضر يعيشونه بكرامة وسيادة وعزة.
لقد جمعت أميركا لشن عدوانها تحت تسمية «ربيع الحريق العربي» كل ما يمكن لها جمعه، وحشدت 133 دولة للانخراط فيه وسخرت له كل الثروة العربية النفطية، والأسوأ من كل ذلك سخرت الدين الإسلامي الذي صنعت منه دينا يناسبها على حد ما قال رئيس الـ سي أي أي السابق في العام 2006 عندما أعلن في محاضرة في البنتاغون قائلا: « علينا أن نصنع لهم إسلاما يناسبنا، ونغريهم للاقتتال به وحوله حتى يتآكلوا ونهرع إليهم منقذين ».
رغم هذا التحشيد فقد تمسك محور المقاومة بحقوقه ورفض الانصياع للهيمنة الأميركية التي تجلت غطرستها في ممارسة الإملاء والفرض على الدول وأعطت أميركا لنفسها الحق بان تحدد من يحكم هذه الدولة أو تلك أو من عليه أن يرحل ومن هو شرعي ومن هو غير شرعي من الحكام، متجاوزة في ذلك كل قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والأخلاق والكرامات. وهنا نجد أن من كان منصاعا للإرادة الأميركية ينفذ من غير كلمة يسجل فيها مجرد اعتراض أو حتى استفهام (كما حصل في قطر التي أبدل أميرها باخر) ونجد أصحاب الكرامات والعنفوان الوطني الذين تمسكوا بحقوق شعبهم وسيادته يرفضون الإملاء الأميركي وكانت سورية ورئيسها المثال النموذجي لهذا الرفض مع التمسك بالكرامة والعزة الوطنية.
وهنا يجب أن نفهم ماذا تعني أميركا بقولها بأن «الرئيس الأسد فقد شرعيته وعليه أن يرحل »، لأنه من المهم أن نحدد جوهر القول و مدلوله ، فالمسألة ليست شخصية محصورة في شخص رئيس يبقى أو يذهب ، إنما هي ابعد من ذلك بكثير فهي تتصل في تعيين مصدر الشرعية و صاحب الحق بممارستها ، فأميركا تريد أن تقول بكل بساطة إنها هي و ليس الشعب السوري هو من يسبغ الشرعية أو يسقطها عن الحاكم ، أي أن تقول إنها هي صاحبة السيادة على سورية التي تنظر اليها أميركا كما تنظر إلى غيرها من البلدان بانها ملكها و لا سيادة لاحد عليها ألا لأميركا و لهذا فان أميركا ترسل طائراتها إلى سورية دون استئذان احد و دون التوقف عند موقف أو قرار من مجلس الأمن ، وإن القبول بالموقف الأميركي يعني تنازلاً سورياً نهائياً عن حق الشعب في اختيار حكامه حيث سيكون بعد ذلك القرار الأميركي وحده هو الذي يعين لسورية أي رئيس في المستقبل و هنا الخطورة وهنا مكمن الاستعمار العميق.
لهذا ترفض سورية و يرفض معها محور المقاومة هذا الانتهاك ، و يرى المحور أن له الحق بالاستعانة في مواجهة العدوان الأميركي بأي صديق أو شقيق يملك الشجاعة لتقديم المساعدة دون أن يخشى «الغضب الأميركي » و بهذا المنطق جاء الطلب السوري من روسيا و كانت التلبية بتقديم مساعدة عسكرية روسية لوجستية و عملانية للجيش العربي السوري وحلفائه في الميدان السوري ، و بهذا الفهم كان الرفض السوري للإملاء الأميركي حول الرئاسة السورية و مشروعيتها و بهذا المنطق كانت الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الأسد إلى موسكو وكانت الحفاوة التي أحيط بها و كانت المواقف الاستراتيجية الكبرى التي اعلنها السيد حسن نصرالله في عاشوراء ، مواقف تزامنت مع ما صدر من طهران و دمشق من مواقف تتكامل جميعها لترسم مشهد الموقف بريشة محور المقاومة و تحدد قواعد الاشتباك على أساسه كالتالي :
إن العدوان على سورية والمنطقة هو عدوان أميركي تستعمل فيه أدوات وتابعين، عدوان يستهدف المنطقة لتحويلها إلى مستعمرة، وشعوبها إلى عبيد لا هوية لهم ألا ما تحدده أميركا.
أن الإرهاب هو أداة أميركا في عدوانها ولذلك فإن أي تغيير سياسي مهما كان طفيفا في ظل وجود الإرهاب إنما هو تمكين لأميركا من تحقيق أهداف عدوانها لذلك تجب مواجهة الإرهاب واجتثاثه في المنطقة قبل أي عمل آخر لان في ذلك تميكناً للشعب من ممارسة حقوقه وسيادته.
إن عمل محور المقاومة مع أصدقاء صادقين أمثال روسيا وطلب المساعدة منهم أنما هو حق سيادي مشروع ليس لاحد أن ينتقده أو يحول دون ممارسته.
إن أي حل سياسي يجب أن يقوم على مبدأ أساس «السيادة للشعب» وهو من يمارسها عبر حكام يختارهم، وليس لأميركا أن تحدد من يحكم ومن يذهب وأن مجرد البحث في الموضوع يعتبر عدوانا كاملا، والرئيس الأسد بات رمزا وعنوانا للسيادة الوطنية وليس لاحد من أميركا أو اتباعها وأدواتها تدنيسه بمجرد تناوله في البحث.
إن محور المقاومة كما رفض الخضوع في العام 1990 وانتصر بدءا من العام 2000، وكما واجه وصمد منذ العام 2010 مستمر في المواجهة حتى يحقق النصر النهائي الذي يقترب يوما بعد يوم وهي مواجهة مستمرة مهما كانت الأثمان وليس في قاموس محور المقاومة تنازل أو تسوية تمس حرية الشعب وسيادته.
* أستاذ جامعي وباحث استراتيجي - لبنان