في الطريق إليها أبصروا النور لأنها شلال منسكب من السماء.
والشام ليست جغرافيا محدودة فهي أوسع وأعم وأشمل من حدود التكوين بدايتها وإلى الموعود وجودها لا تهزها النوائب، ولا تذرو ترابها رياح عاتية، أبداً قاسيونها شامخ، ثابت يعانقه بردى الوعد وسر الندى في غوطتيها.
الشام هي سهول حوران، وجبل العرب، وأم الحجارة السود، وقمم الساحل، وهي حماة وأنين نواعيرها وحقول القمح في سهول الفرات... هي اشتعال الخضرة في ادلب، وميادين العلم والأدب والفروسية في حلب.
الشام هي طريق الأرض إلى العلياء ورسالة السماء إلى البشرية.. صقلت الكون وهذبته وما من صفحة في تاريخ البشرية إلا وللشام فيها سطور وسطور.
الشام.. صلاح الدين وابن عساكر، وابن عربي، ومحمد كردعلي، وبدوي الجبل، ونزار قباني، وغادة السمان، وابراهيم هنانو، وفارس الخوري، وسلطان باشا الأطرش.
الشام.. عروس عروبتنا ليست بمحنة أبداً، هي في طور جديد من التكوين تعيد صهر سبائكها ليزداد الذهب نقاء ويتخلص من الأوضار والشوائب.. ليست مجروحة أبداً لأنها تغسل بالدمع قلوب مريديها، ليست في مرمى أحقادهم لا لأنهم لا يريدون بل لأنها عصية عليهم أمنع من عش نسر في أعالي القمم.
الشام صباحات ندية لسنا أول من يعطر انفاس حياته بشذا ياسمينها، ويتوق أن ينسكب قطرة ماء تروي ترابها.
صباحات الشام سحر عصّي على فك رموزه واكتشاف كنهه.
في الشام يعاد التشكيل والتكوين ويبدع السوريون ماليس بالحسبان... سيف دمشق العصي على الثلم والإنكسار وفي دمشق ورد جوريها، وياسمينها الذي لا يتلون.. في دمشق قلعتها، ودمشق من الشام كما اللون للجسد وهي القلب ونبض الشرايين... دمشق عاصمة الكون، وسدرة المنتهى.. والشام جسد هذا القلب.
هل جربت ذات يوم أن تقف على تخوم يومك وأنت تسترجع وقائعه..؟! هل فعلت ذلك ذات مرة..؟! بالتأكيد كلنا يقف أمام تخوم يومه المنصرم، يراجع ما فعل، وما قال، وربما يقيم ويحاسب و و.... ولكل أسراره، وأسلوب مراجعة زرعه وحصاده... ولكن هل التفت أحدنا إلى أمر في غاية الأهمية أنه أينما كان في قرية في مدينة، في دمشق، حلب، السويداء، درعا، الحسكة، دير الزور، اللاذقية، طرطوس... نعم أينما كان يكتشف أنه ليس مجرد رقم في شارع، ولافي مكان عمل.. ولا في حديقة، ولا مشفى ليس رقم حساب بنكي أو لوحة سيارة، أو رقم شقة تدلل عليه كما هذه الأشياء في مدن صقيع الحضارة الغربية.
قبل أيام وفي انتظار (مريم) الحفيدة القادمة اكتشفت أمراً عادياً لم يكن غائباً أبداً لكنه كان مركوناً يصرخ انتبهوا إليّ.
في صالة الانتظار كنت ابن داريا وابن درعا، والسويداء، واللاذقية، كنت السوري من كل الأصقاع، صالة تعج بالمنتظرين كل يتحدث مع جاره، يفتحان حديثاً ما، في الأحوال والوقائع، خيط خفي من التوق الإنساني إلى المتواصل يجمعهم، لا أحد يعرف اسم الأرض الا بعد دقائق، أو ساعة... يناديه يا أخي، أو يسأله: بلا صغرة.. أنت أبو مَن..؟!
أبو.. وتبدأ رحلة الحديث.. هذا يهنئ جاراً على مولود / مولودة قادمة.. أفراح ووشوشات تشع من الوجوه تقتلع دكنة المحنة العابرة، يتجدد المشهد.. يذهب الكثيرون ويحضر الكثيرون، يتواصلون، يدردشون هنا يتجدد الإنسان ونحتفي بالقادم.. جرب أن توصد ذلك في المشفى في الجامعة في الشارع في المتاجر في حافلة نقل.
بانتظار حفيدتي (مريم) اكتشفت أن يومي سوري أعيشه وأبناء سورية أينما كانوا.. هي وقائع الدفء الإنساني نضعها معاً، نعيشها منذ آلاف السنين وستبقى.. هنا أؤمن باللاشعور الجميل الذي طرحه عالم النفس (يونغ).
هنا أنت الجميع، والجميع أنت... هنا يروي لك أحدهم حكاية ما دون أن تعرف اسمه، وفجأة بلا مقدمات ولأمر طارئ يودعك ويقول لك: في المرة القادمة أكمل الحديث مع أنك ربما لن تراه أبداً، لكنه سيروي الحكاية لآخر، أو لست الآخر.. جاري في حافلة ما لم أره إلا مرة واحدة ولم أعرف اسمه.. روى لي حكاية ما.. لم تنته الرواية عند الوصول إلى آخر محطة ودعني وقال: في المرة القادمة نكمل .. نعم انتظرك.. منذ عشر سنوات كان الأمر.. وبالتأكيد لم أره لكني أثق أنه أكمل الحكاية لأن أي آخر هو أنا، وأنا هو في القاسم السوري الحضاري أطفالنا، أحفادنا، أبناؤنا أيها السوريون رأيت (مريم) القادمة في بسمة كل أم وأب وهي كل طفل في كل أسرة سورية لسنا أرقاماً هنا نبض الحياة وهنا الإنسان السوري إذا كان رقماً فهو رقم حضاري فاعل هو الرقم الأول هنا في انتظار مريم وكل أطفالنا اكتشف أننا حضارة الإنسان وهم حضارة الطين.
d.hasan09@gmail.com