منذ شهر ونيف كانت تصطك الأسنان الفرنسية وهي تهدد وتتوعد عبر رئاستها لمجلس الأمن.. مضى الشهر أو كاد.. ولا تزال تلك النبرة رغم ما واجهته من خيبة سياسية ودبلوماسية ماثلة للعيان، تعلو إلى حدّ الصراخ, وتقدم مقاربة تترجم أوهام معتنقيها وتعكس إفلاس منفذيها.
من الدعوة الأولى للاجتماع على مستوى وزراء الخارجية الذي تعهد فابيوس برئاسته، إلى الدعوة الثانية في اليوم الأخير من الرئاسة الفرنسية، مرت أحداث وتطورات لم تتعظ منها السياسة الفرنسية، ولم تتعلم دبلوماسيتها، وحتى حلم الجلوس على مقعد الرئاسة، في مجلس الأمن لم يتحقق كما خطط ، لذلك سيكون مضطراً أن يسجل في دفاتر دبلوماسيته ملامح الفشل، ليس في محدودية من لبى دعوته، وإنما أيضاً في المعاكسات السياسية التي افترقت في حقول السياسة الفرنسية عن حسابات البيدر في العلاقات الدولية!!
الصفعة المنتظرة للدبلوماسية الفرنسية، لن تأتي فقط من غياب التمثيل الوزاري الروسي والصيني والأميركي وغيره، بل حين سيجد فابيوس أن نظراءه الذين قبلوا الحضور، لا يمتلكون المؤهلات كي يضيفوا إلى رصيد الدبلوماسية الفرنسية، بقدر ما سيسجلون عجزها.
ما فات الدبلوماسية الفرنسية يبدو أضعاف ما استطاعت استدراكه..و أن توقيت الاختيار كان أكثر خطأ من الخيار ذاته، حيث العالم الممثل بـمئة وعشرين دولة في قمة طهران سيكون مشغولاًً بمتابعة هذا الحشد الدولي في وقت تحوّل فيه إلى ظاهرة لها تداعياتها على مجمل المشهد الدولي، بما في ذلك مجلس الأمن.
المفارقة أن العالم الذي ينتظر تحولات المشهد على المستوى العالمي، تقابله مواقف لدول وأطراف وأدوات مدفوعة بأحلام أطماعها وامبراطورياتها البائدة، لا تزال يعيش في مناخات ما قبل الحدث السوري، ولا تزال يعمل وفق أجندات، ربما كانت صالحة فقط حين تحضر الهيمنة وتخيّم، حيث التقاطر إلى مجلس الأمن بأمر العمليات الأميركي هو غيره ذاك الممهور بتفويض فرنسي فاقد لشرعيته ودوره حتى لو أطال في استعراض ملامح محنته وشحذ في حقائبه الأوراق البائسة من بكائياته الإنسانية الفظة!!
وعلى الضفة الأخرى، نجد الحديث الطويل والمسهب عن تراجيديا الحدث وتداعياته.. من حمل في حقائبه وصايا الآخرين وأمر عملياتهم ويحاول تمويه الصورة، لكنه لن يتمكن من الحفاظ على استمراريته، دون أن يكشف الهوية التي يعبر عنها، والأدوات التي انتقته بوابة للنفاذ إلى حيث لا يستطيع الذهاب.
وفيها أيضاً تستكين أصوات علت.. ومحاولات تبيّض صفحات اسودّت حتى القتامة، وعمليات بيع وشراء تحت الطاولة وفوقها.. ودسائس ونفاق مكشوف ومفضوح إلى حدّ الخلط الساذج بين حقائق، لا يمكن حجبها بغربالهم المثقوب، وبين أوهام تبخّرت دون أن تترك حتى أثر.
ما قبل اليوم كان مشهوداً له، وما بعده سيسجل أنه منذ الرئاسة الفرنسية لمجلس الأمن، غابت صورة الضجيج للدبلوماسية الفرنسية، حتى مرتزقتها وأدواتها المستأجرة أميركياً وبتفويض مسبق ستعيد ترتيب حساباتها وإنشاء معادلاتها، وإن كانت متخمة بالأخطاء ذاتها، لتعلن خيبة فرنسية لم تقتصر على الدبلوماسية وإنما طالت ما راهنت عليه من أدوات وما استعانت به من «أصدقاء»؟!!
وما قبل اليوم، كان يقال أيضاً إن عدم الانحياز ضاعت في متاهات الاستغياب من الخارج، والتفخيخ من الداخل، لكن ما بعده سيقال إنها نفضت عنها بعضاً مما علق وذهبت في إبحارها انطلاقاً من الحدث السوري.. بعيداً عن مرافئ الآخرين وحجوزاتهم المسبقة وإقاماتهم الدائمة والمتنقلة، لترسم مسارها بإرادة ستجاهر بأن جلسة مجلس الأمن الممهورة بصفاقة الفرنسيين، لم يعد متاحاً لها أن تتكرر.
زمن التبعية للآخر ينحسر حضوره.. تتراجع مفرداته والعودة إلى الدفاتر القديمة لا تعني بالضرورة الاحتكام إلى ما سبق أن رفضته في الماضي، ولا أن تأخذ بما علق منه، وإنما أن تخط من وحي اللحظة ولادة جديدة لمبادئ عابقة بروح التعاون والإرادة الجادة بدل العدوان والبغي والإملاء والفرض..
a.ka667@yahoo.com