ووحدهم ذوو الهمم العالية قادرون على فعل ذلك, إذ إنهم يعتقدون أن أهمية وجودهم في هذه الدنيا إنما تتحدد بالقدر الذي يستطيعون معه ممارسة فعل التقديم والعطاء, وهم مع ذلك لا ينتظرون ردا أو شكرا أو اعترافا.
هؤلاء النماذج ليسوا من نسج الخيال, ولا هم رؤى حالمة لكاتب رومانسي يصوغ شخوصا بأفكار وتصرفات خيالية, وهم ليسوا ملائكة لا تعرف غير الطاعة والعبادة وتغيب عنها العواطف والهوى, بل يعيشون بين ظهرانينا, ويتنقلون فيما بيننا, ويتعايشون مع قضايانا, فيؤيدون بعضها, ويعارضون بعضها الآخر.
إنهم أشخاص من لحم ودم وعواطف يظهرون في حياتنا مرارا وتلامس تصرفاتهم احتياجاتنا وأنشطتنا المختلفة فتضفي عليها كثيرا من الروعة والرقة والتضحية والإخلاص, فضلا عن الدقة والارتقاء في الأداء الوظيفي والمهني.. أشخاص قد لا يلفتون الانتباه في بادئ الأمر, وربما يتم تجاهلهم, وتجاهل دورهم ووجودهم لأوقات طويلة, لكنهم يظهرون فجأة كما المارد المسحور ينهض من قمقمه فتظهر عظمة عطاءاتهم ومقدراتهم التي احتجبت عن الرؤية المباشرة زمنا, باعتبارهم لا يتفاخرون بما أنجزوا ولا يقدمون معلقات مطولة بالأعمال التي يقدمون بها, وربما على العكس يقومون بإخفائها أو ينسبونها إلى سواهم وخاصة من الواقعين تحت عبء أمراض العظمة, وأوهام الشهرة الفارغة..
إنهم أشخاص من لحم ودم يظهرون في كل تفاصيل حياتنا, لكننا لا نحس بأهميتهم ودورهم لأنهم يمضون في حياتنا كما النسيم الخفيف, ولا يثقلون كاهل حياتنا فلا ضغط يمارسون ولا فظاظة يعرفون, ولا ثقل يمارسون, فالرقة سمتهم والصمت سلوكهم, والعمل المتواصل المخلص ديدنهم, يظهرون في طريقنا بدءا من المنزل في صورة الأم والأب والزوج والأخ والأخت, في واحد منهم ينذر نفسه لخدمة الآخرين والسهر على راحتهم, وتتجلى أبهى صورهم في مواقع العمل والانتاج والوظيفة الحكومية العامة, فنراهم يتخفون في وظائف هامشية, ولا يهتمون للمواقع والإدارات, ولا يفتشون أو يلهثون وراءها, ويزهدون في المناصب ويبتعدون عن الأضواء..
إنهم ركائز أساسية في المؤسسات والهيئات الرسمية, فأمام البطالة المقنعة, والأعداد الفائضة من العمالة التي تكون سببا في إعاقة العمل, يبرز دور أولئك العظماء, المتحلين بالصمت والمحبة والقادرين على العطاء, والعاملين بدأب على امتداد الزمن.
إنها صورة الإنسان الواهب, و.. العظيم...