وبما يتجاوز كل ما سبق طرحه أو تبنيه في زمن التوافق الدولي قبل عقود من الزمن، وجميعها يخدم في نهاية المطاف الأجندة الإسرائيلية حتى لو تغيرت العناوين أو تبدلت الصيغ المطروحة.
المبادرة ليست صيغاً سياسية جاهزة وإن استعانت بما سبقها بقدر ما تعكس رسماً لخرائط جديدة، كما أنها ليست حالة فردية، بل هي في أغلب التخمينات نتاج توافق بين قوى متنابذة على المسرح الميداني، لكنها متوافقة على حدود ومساحة العبث المسموح به، وشبه مقتنعة بأن الخرائط الحالية الناتجة عن مخلفات سايكس بيكو لم تعد تفي بإرضاء أطماعها، ولا بد من تحولات تمسّ جذر التقسيمات القائمة، جغرافياً، ولا معضلة إذا ما قدر لها أن تلامس التموضع الإثني والتركيبات الديمغرافية والعرقية، على قاعدة أن هذه الحرب بتشعباتها ونتائجها ومحاورها سيكون من الصعب نزع صواعق انفجارها من دون تحريك أدوار البيادق، حتى لو اقتضى الأمر انزياحاً في تموضع بعضها، أو جار الزمن على بعضها الآخر بدورها الوظيفي وحتى الوجودي على خرائط المبادرة الأميركية.
ما يتم تداوله عن توافق يتجاوز الإسرائيلي، المتحفظ نسبياً أو القلق من استحالة التنفيذ، لكنه يأخذ بالحسبان الحصيلة النهائية التي يريد الأميركي تعميمها، عبر التعويل على تحقيق ترامب ما عجز عنه جميع الرؤساء السابقين، بعد الحصول على موافقة خليجية مسبقة، وقبول البعض بدور تقريبي ينخرط فيه وفق المعادلة الأميركية، يقابله صمت أردني يصل إلى حدّ الإحساس بمرارة الخيارات التي بدت في معظمها خارجة عن رغباته، لكنه يبدي عجزاً واضحاً وصريحاً عن رفضها، بما فيها التلويح بالوطن البديل، ليعود الخيار الأردني للبروز إلى واجهة الاحتمالات، التي يُراد لها أن تكون التشكيل النهائي للخرائط التي تُعدها الإدارة الأميركية.
في القراءات المختلفة ثمة من يراهن على طبخة حصى تجمع على موقدها بين الشتاء والصيف، وتترك الحبل على غاربه للإضافة والحذف وفق التمنيات، أو لتدوير الزوايا: بحيث تتطابق ولو بشكل جزئي مع بعض الأوهام التي ترتفع وتيرة التعويل عليها ونحن على عتبة مئوية وعد بلفور، الذي استنفد أغراضه في خدمة المشروع الاستعماري ليكون البديل الأميركي أكثر من وعد.. وأبعد من مجرد تورية سياسية في ظروف تاريخية تبدو بالغة الخطورة لجهة منعكساتها وتداعياتها المختلفة على المنطقة.
الجديد في طبخة الحصى تعدد الطباخين وتعدد النيات والمرجعيات، وازدواجية القراءة وتباينها الحاد في بعض الجوانب، فإذا كان “بلفور” طبخة إرادة استعمارية بحتة لعبت فيها بريطانيا دوراً محورياً وربما أساسياً، نتيجة غياب أو تراجع الأدوار الأخرى، فإن ما يتسرب من نيات الإدارة الاميركية يؤشر إلى أنها تطلق وعدها وهي متقاطعة مع وعود سرية أو علنية، وتتطابق مع رغبات لا تخفيها قوى دولية وإقليمية، لكنها تبقى محكومة بتباينات حادة مع أي شريك مفترض، وتعاني من نقص في أدوات التنفيذ، وتواجه تحديات لا تخفى على أحد من قوى لا تشاطرها الرأي أو على الأقل لا تتطابق معها في القراءة، مضافاً إليها ملامح أفول في هيمنتها المطلقة، التي كانت تمتلكها قبل عقد من الزمن أو أقل.
المثير في الأمر أن التعويض الأميركي لجوانب النقص ونقاط الضعف يقوم على فرضية الدور المنتظر من أدوات طالما قبلت بما تريد أميركا، سواء كان خوفاً من بطش سيطولها، أو رغبة في التشفي من المنطقة وشعوبها التي رفضت وضاعة دور تلك الأدوات، التي تحاول أن تقدم ما يفوق المطلوب منها، حيث تزدهر علناً بضاعة العروض المجانية والقبول الأرعن من قبل بعض الدول الإقليمية بالمزاودة على الأميركي وما طلبه، وعلى الإسرائيلي وما تمناه!!
النقطة المفصلية في كل هذا العبث بمكونات المنطقة الهشة التي تسبق التسريبات أحياناً.. وتلحق بها في أحيانٍ أخرى، أن الفارق الزمني لا يستطيع أن يصنع فرقاً تاريخياً وإن فرض بعض التورمات، وأن المساحة الممنوحة لاستدراك أخطاء الوعود الغربية السابقة لا تكفي لتصنع بدائل قابلة للتطبيق وإن اصطنع خرائط إضافية، حتى لو شاركها بعض مَن في المنطقة وحتى مَن هو خارجها، فنزع فتيل الصراعات لا يمكن تحقيقه بزرع مفخخات إثنية وعرقية تحكمها من داخلها عوامل تفجيرها، مضافاً إليه استحالة الجمع بين مشاريع تتصادم في الهوامش المنسية وتتنازع على الأهلية في المحاصصة على تقاسم النفوذ.
a.ka667@yahoo.com