وتتبعثر القلوب في الطرقات.. رؤوس تتدحرج.. ودم يشكل نهراً... النهر يسير بعيداً.. دم يلغي كل الحدود..وعماء يبهج الناظرين.. أرتطم بالكرسي وتسقط الشمعة التي في يدي.. تعم العتمة ويصير الليل كله داخل غرفتي.. تضيع الجهات مني ويسطع وجه الغائبين في قلبي.. شوق عميق، يجتاحني... وحنين قديم يتجدد.. أصوات رصاص قريب.. ها قد وصل جثمان الشهيد.. والشهيد يبعد عن بيتي عدة بيوت.. وعن حارتنا عدة دقائق.. أسمع لغط الجيران ونحيب يشق سكون الليل.. فجأة تجيء الكهرباء... وتنكمش العتمة وتختفي وراء قلم حبر.. أو في سترة جندي يرصد فجوات الدقائق.. امسك بكتاب طاغور الطبعة التي ترجمها الدكتور بديع حقي، فأقرأ:
في زحمة عمل النهار أكون مع جموع الناس، بيد أنني في يوم مظلم موحش كهذا اليوم، لا أتمنى سواك.
الرصاص يدوي.. وجارتنا الثكلى تمرر صراخها بين الرصاصة والرصاصة.. ابنها بطل نعم.. شهيد نعم.. ولكنها كما قال السيد حسن نصر الله في خطابه نحن بشر نتألم ونبكي ونحزن على أحبابنا.
لكن علينا ان ندفع زورق الحياة.. لأن الوقت يمر.. ويجب أن يعبر الزورق بأجساد الشهداء وإلا فسنغرق جميعاً ويغرق البلد.. ومن أجل البلد.. ولأجل أن يعبر الزورق.. تبكي امهات.. وتصرخ الزوجات.. ومع كل أنة أسمع طاغور يقول:
لاتذهب ياحبيبي، دون أن تستأذنني.
لقد سهرت طوال الليل وعيناي الآن مثقلتان بالنعاس أخشى أن أفقدك وأنا مستغرقة في النوم.
لاتذهب ياحبيبي دون أن تستأذنني.
إنني أنهض وأمد يدي لأمسك وأسائل ذاتي، تراه حلماً؟
أنى لي أن أجمع قدميك إلى قلبي وأضمهما إلى صدري.
لاتذهب ياحبيبي دون أن تستأذنني.
لاأعرف من هو شاعر أكثر .. طاغور أم تلك الأم التي تحمل ثياب ابنها وتصرخ مشدوهة قالت: لم يودعني ..لم أشمه .. ومالمست وجهه .. هل قرأت طاغور..؟ أم طاغور كتب عنها..؟!.
بل هي زادت على طاغور بأن قالت لابنها المحمول على الأكتاف:
كيف لك أن تنام وترتاح وأنا أسهر الليل الطويل؟ كيف تغمض عينيك وأنا الى جوارك أناديك ولاترد.. لم تخبرني بأنك ستسافر .. قلت بأنك ستذهب إلى دمشق..
لكنك لم تقل بأنك لن تعود .. وا أسفاه «لن أطيق المكوث في الدار.. فالمسكن لم يعد مسكني بعد الآن».
وددت لو تنطفئ الكهرباء الآن .. ربما أغلق كتاب الشاعر طاغور الذي تفوقت عليه جارتنا الثكلى.. لقد تجاوزت في بكائها شعره وحكمته- إنها تتكلم مع ابنها.. وتمرر أصابعها على صورته تمسد شعره وكأنها تفرقه بالمشط وهو الطفل الصغير الذي كان.. لكن الآن الشاب البطل الذي لم يستأذن أمه ليذهب الى دمشق، لكن دمشق أعادته ملفوفاً بالعلم.. محمولاً على الأكتاف .. غافياً بين الأحضان .. لم يوقظه الرصاص.. ولم تهزه صرخات أمه.. ظل ساكناً حالماً والجموع الغفيرة تجهز بيته الجديد...
بعد أن قدم دمه لبيته القديم - الوطن-
كان يحب أن يجلس تحت شجرة الزيتون الغربية التي تطل على البحر وها هو اليوم يغفو تحت الزيتونة نفسها ويطل على نافذة أمه - ستناديه طويلاً- وسيظن العابرون بأنها تناديهم.
سيلتفتون إليها غير أنها ستهمس «أنا أنادي الوطن».