خصوصاً حين جاء للاستدلال على حالة توجز إلى حد بعيد ما يجري في الكواليس كما هو على الملأ، بل يحاول أن يقدم محاكاة نوعية لما أنتجته الممارسة الأميركية على طول خط التعاطي مع معضلة محاربة الإرهاب، التي تحولت إلى أحجية ومجموعة من الألغاز في السلوك الأميركي.
الفارق أن روسيا التي بدت أكثر وضوحاً في تحديد المصطلحات على المستويين السياسي والعسكري.. وصولاً إلى تسمية الاشياء بمسمياتها ، باتت على يقين كامل بمنحى المحاولات الأميركية، وربما وصلت إلى اللحظة التي أيقنت فيها أن الدور الأميركي ليس معيقاً عادياً لعملية مكافحة الإرهاب، بل يشكل خطراً منزلقاً يكاد ينسحب على مجمل المواقف الأميركية التي تتحرك نحو رفع منسوب التصعيد السياسي والعسكري، وإن كانت العلاقة الشائنة مع الإرهاب هي ما يستوقف الجميع، وما يدفع إلى الجزم بأن النكوص الأميركي على الكثير من الالتزامات المعلنة منها أو تلك التي بقيت طي الكتمان وصل إلى أعلى مراحله، وربما أخطر مستوياته.
فالواضح من سياق المشاهدات العينية المباشرة عسكرياً وسياسياً، أن هذا العمى الانتقائي لا يقتصر على التعاطي مع الإرهاب، بل ينسحب على ملفات كثيرة في العالم، وما تبصره هنا تتعامى عنه هناك، والأدلة والقرائن الدامغة على ذلك تتجاوز حدود التوظيف أو الاستثمار في المنحى الإرهابي، وتصل مرتبة الخيارات الاستراتيجية الأميركية التي تحاول من خلالها أن تفرض واقعاً لا تكون فيه طرفاً مباشراً فحسب، بل جزء من المنظومة التي تعمل على استنزاف الطاقات والإمكانات والقدرات المختلفة لدى الآخر بحروب تغذيها بوكلاء معتمدين رسمياً في بعض الأحيان، أو بمرتزقة يعملون لحسابها في أحيان آخرى، حيث الفارق في الحالين يصب لمصلحة الأميركي الذي يتفرغ لإدارة ما ينتج من خراب ودمار، ولا يتخلى عن المساحة التي يشغلها في الدعاية السياسية لدوره كشرطي يحاول أن ينظم المساحات والأدوار.
الأوضح أن أميركا ليست بوارد إعلان قريب بوضع حد لهذه الازدواجية، التي حكمت خياراتها ماضياً وحاضراً، ولا نية لديها في العدول عن تلك الانتقائية في التعاطي والتعامل مع الأحداث والتطورات، فما تريد أن تراه سيبقى هو ذاته، وما تتعامى عنه سيبقى الحال على ما هو عليه حتى إشعار آخر، بدليل أن ما تُقدِم عليه في لحظة ما لا تتردد في إعادة نفيه أو تجاهله أو حتى سحبه من التداول من دون أن تلغيه، بل تبقي عليه حتى تحين ساعة استخدامه.
بالمقابل فإن ما تستدرجه اللغة الروسية القادمة من وزارة الدفاع الروسية يشي بأن المسألة تتجاوز حدود التعاطي مع الدور والموقع من تلك الزاوية الضيقة التي تحشر فيها أميركا كل الأشياء، حيث الرسالة الروسية متقنة إلى الدرجة التي تستنبط فيها صوراً إضافية لمشهد المراوغة الأميركية، وتبرع في التقاطها وتوظيفها بلغة السياسة من دون استبعاد لقواعد الاستخدام في أي محاججة ومن أي نوع كان، خصوصاً في هذه المرحلة التي نشهد فيها شدّاً متصالباً في المقاربات المختلفة، حيث الأمور تصل إلى خواتيمها النهائية وتبدو مرحلة الاختبارات الصعبة على خطوط المواجهة العملية، بحيث لا تنفع الدبلوماسية دائماً، ولا يجدي معها بأي حال الاكتفاء بالتجاذب على تلك الخطوط.
«العمى الانتقائي» توصيف سياسي لكنه بلغة وزارة الدفاع الروسية له منحى إضافي وسيضاف إلى لائحة طويلة من الاحتمالات المفتوحة على مصراعيها، وهي تتقاطع مع التطورات التي تشير بوضوح إلى أن أميركا التي أوعزت ذات يوم لمرتزقتها وإرهابييها بالانكفاء إلى الخطوط الخلفية، هي ذاتها أميركا التي تدفع بهم إلى خطوط المواجهة الأمامية، وهي التي تحركهم، وتعبر من خلالها عن وصول الخيارات الأميركية إلى عتبة الإفلاس السياسي، أو على الأقل إلى مرحلة العبثية المطلقة التي تعيد ترتيب أوراق الإرهاب ومكوناته وأدواته على نسق ما تقتضيه مرحلة ما قبل الانكفاء القادمة، سواء قبلت أميركا أم لم ترغب تحت ضغط الضرورة في التحول المنتظر في الخرائط والإحداثيات سياسياً وعسكرياً.
a.ka667@yahoo.com