فإذا بأفراد من هذه الأسرة أو تلك يوقفون عقارات يتوارث أبناؤهم ريعها جيلا بعد جيل, ولا يجوز بيعها أو التصرف بها. وبما أن هذه الأموال المرصودة للأجيال تتناقص تدريجيا بنمو أعداد هذه الاجيال فقد غدت الأوقاف المرصودة وكأنها منسية, أو كأن لا جدوى منها لأن قروشا قليلة لا تحفز هذا الوارث على أن يلاحق حقه الموقوف له وخاصة في تباعد المسافات وضعف الإمكانيات, علما بأن هذا الأسلوب استمر لزمن طويل, وأضيفت إليه ليس عقارات فقط وإنما مساجد, وكتاتيب, وطواحين, الخ.. ومدارس فيما بعد, وأبنية لمصالح عامة حتى غدا الأمر ملحا وضروريا للنظر في هذه الأوقاف, والإفادة منها لعموم الناس مع تخصيص مبالغ تصفية للورثة المتتاليين عبر السنين.
صحيح أن لهذا الأسلوب فوائد كثيرة منها الإحساس بالأمان بالحصول على مبلغ مستمر مع الزمان, وصحيح أيضا أن الذاكرة تنشط لدى الأبناء في السؤال عمن ترك لهم هذا الإرث الوقفي.. فيخلق ذلك نوعا من الروابط الأسرية القوية, وربما الترحم على من ترك هذه الأموال ولو بعوائد غير سخية.
ولعل دمشق العاصمة هي أكثر المدن أو البلدات التي وجدت فيها دوائر وقفية لتمركز السلطة فيها أولا, ولأن الفرص المتاحة لرصد الأوقاف كانت أكبر من غيرها في سائر المدن والبلدات.
ويروون لنا- وعلى ذمة الراوي- أنه كان هناك من يرصد أوقافا لبعض الأمراض المستعصية كالجذام أو السل, أو للعجزة والمسنين ولمن تقطعت بهم السبل فلا يجدون مأوى أو سبيلا للعيش. وبما أن أسلوب (البيمارستان) كان شائعا إلى حد ما في ذلك الزمان فقد كانت البيمارستانات تتغذى من ألطاف الأوقاف, وربما تحول بعضها ليس إلى المشافي وإنما إلى مراكز للأمراض العقلية أو النفسية.
ومن أغرب ماسمعناه-وعلى ذمة الرواة أيضا- أنه كان هناك وقف للقطط الشاردة التي يهيأ لها مأوى, ويرمى إليها بالطعام حتى تنفق دون أن يصيبها أذى لأن هذا يمس طرفا من العقائد الدينية كالرفق بالحيوان كما الإنسان.
ومن الغرائب أيضا أنه كان هناك وقف اسمه وقف(الزبادي) والمفرد(زبدية) أي وعاء من الخزف الصيني, أو (المالقي), أو ربما من الفخار يستخدمه صغار العمال في المهن بين الدكاكين, وفي ورشات الأنوال, أو الصباغة, أو الدباغة, أو غيرها ليجلبوا به طعاما أو مرقا أو لبناً فإذا ما وقع الإناء وانكسر فإن على هؤلاء الصغار أن يغرموا ثمنه من أجورهم مما يسبب هروبهم من العمل, أو نفورهم أو ربما ايقاع الأذى بهم. عند ذلك يلجؤون إلى منفذ الوقف ويشرحون حالتهم ويأخذون التعويض المناسب لهم.
ما أكثرها من ألطاف حققتها الأوقاف ولو كانت بجهود فردية أو عشوائية لكنها الآن أخذت مجراها الطبيعي والرسمي بنشوء جمعيات أهلية وأخرى خيرية بدلت الأسلوب والمحتوى وإن لم يتبدل القصد والمغزى.
انها دمشق الصامدة دائما..والقوية دائما في دفع الضرر عن ابنائها المتعاونين فيما بينهم ولو بثقافة شعبية بسيطة او بأخرى دينية خفيفة للتآزر والتضامن ضد الزمن.. وما يأتي به من محن.