بدليل كل هذا العراك السياسي العالمي وحالة الاصطفاف الذي تشكل على مستوى مراكز القوى العالمية وما رافقه من استنفار للمنظمات الدولية لجهة التعاطي مع حيثياتها لتتصدر جدول أولوياتها، ولا شك أن هذه الظاهرة السياسية غير المسبوقة تعكس مسألتين أساسيتين أولهما: الأهمية الجيوسياسية لسورية وتأثير ما يجري فيها على المنطقة والعالم لاعتبارات عديدة، يأتي في مقدمتها موقع سورية المتقدم في مواجهة إسرائيل وإمساكها بملف إنهاء الصراع معها وقدرتها على تشكيل وقيادة جبهة مقاومة عابرة للإقليم مكنتها من جعل ملف الصراع ساخناً وقابلاً للانفجار في أي لحظة، وهو ما شكل حالة قلق وصداع مزمن لكل من قادة إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وحلفائهما في المنطقة،الأمر الآخر هو استمرار سورية في انتهاج سياسة مستقلة متحررة من كل أشكال الارتهان للآخر ورائدة في الدعوة لمشروع قومي عروبي انسجاماً مع مبادئها، وهو ما يصطدم بشكل مباشر مع المشاريع التفتيتية او تلك الرافضة لمفهوم القومية العربية بدعوتها لفضاء إسلامي وهذا ليس بجديد على ساحة السجال الإيديولوجي الذي تشهده المنطقة العربية منذ أكثر من ستة عقود.
وإضافة لما تقدم، وعلى الرغم من كل التصدعات والانهيارات والتغيرات البنيوية التي أصابت المشهد الدولي خلال العقود الثلاثة الماضية، متمثلة بسقوط وتراجع قوى وازنة وصعود أخرى، وانعكاس ذلك على الخرائط السياسية في المنطقة، وتبدل محاور الصراع وأشكال الاصطفاف السياسي فقد استطاعت السياسة السورية الإمساك والاحتفاظ بأوراق اللعبة الإقليمية والتكيف مع تلك المتغيرات بإيجاد تحالفات جديدة واستقطاب قوى وتيارات لها تأثيرها ووزنها في معادلة الصراع في المنطقة، ما مكنها من البقاء فاعلاً أساسياً في المشهد الإقليمي والدولي، إلى درجة أنها استطاعت أن تشكل مركز ثقل سياسي مرجح لهذه القوى أو تلك، وهو ما يفسر من وجهة نظرنا كل هذا الاهتمام الدولي ودرجة الاستقطاب العالمي الذي شكلته الأزمة التي تمر بها سورية وما تركته وستتركه تداعياتها لاحقاً على ميزان القوى العالمي.
هذه الحقيقة التاريخية لم يدركها بعض محترفي السياسة الجدد والداخلين على خطوطها الحمر، فسورية بهذا المعنى الاستراتيجي هي أكبر من الجغرافيا وفي قلب وعمق تاريخ المنطقة الذي يتجاوز مفاهيم البراغماتية الجديدة على قاعدة ,الآن، او هنا، وهو ما يحاول بعض الطارئين على المشهد الإقليمي والدولي تكريسه واستثماره والاشتغال عليه، معتقدين او واهمين ان أبناء وشعوب المنطقة بلا ذاكرة وان وهج المال قد أصابهم بمقتل وهم بفعلتهم هذه يكونون قد ارتكبوا خطأً استراتيجياً بحق أنفسهم وشعوبهم أولاً وبحق الشعب السوري وقضية العرب المركزية قضية فلسطين، حيث يدرك كل ذي بصيرة أن سر الاهتمام الأميركي والغربي بما يجري على الساحة السورية والدفع بالأمور نحو مزيد من التعقيد وإسالة الدماء وإطالة أمد الأزمة هو جزء أساسي من هذه السياسة التي تسعى لتحقيق أحد أمرين الأول وهو استراتيجي ومؤداه ما أطلق عليه خداعاً (إسقاط النظام) والنظام هنا ليس السلطة السياسية وإنما بنية الدولة وترابطها العضوي، عندها تصبح مقولة إسقاط النظام لهجة مخففة ومزاعم سياسية إعلامية تخبئ في الجوهر تدمير الدولة- الوطن وكل ما تمثله من معان وطنية ونضالية ونهج مقاوم وعروبي، أما الهدف الثاني وهو المطلوب حال فشل الهدف الأول فيتمثل في إنهاك الدولة الوطنية السورية اقتصادياً وعسكرياً واستنزاف طاقاتها وإمكاناتها ومحاولة ضرب نسيجها الوطني الذي يعيش حالة وئام وتناغم تاريخي نموذجي والسعي لتحويله الى بلوكات طائفية ودينية متناحرة ،ومن ثم تصديره الى دول الإقليم وجوارها المتشابه بنية ليكون أنموذجاً، وهو الخطوة التالية في إطار الإستراتيجية الأميركية الإسرائيلية للمنطقة ولعله فحوى ومضمون نظرية الفوضى الخلاقة التي صاغها برنارد لويس، ويبدو أن تنفيذها قد أوكل لكل من برنار هنري ليفي ومقاولي السياسة المستثمرين فيما سمي ربيعاً عربياً.
والحال هنا وفي إطار تداخل المشهدين المشار إليهما يمكن إدراك حقيقة وأبعاد ما يجري على الساحة السورية ودرجة تأثيره وترجيحه لموازين الصراع وما يشكله من قيمة مضافة إن لجهة ما هو قائم أو ما هو في طور التشكل، مع الأخذ بالاعتبار المنافسة المستعرة بين القوى الكبرى الصاعد منها والطامح بالصعود والمهدد بالتراجع والنكوص، دونما إغفال لما تشهده أمريكا والقارة العجوز من أزمات اقتصادية عاصفة، تبدو منطقتنا بثرواتها وأهميتها الجيوسياسية والجيوثقافية القادرة على تقديم وصفة العلاج اللازم، وهنا بيت القصيد ؟
khalaf.almuftah@gmail.com