وقد تكون أنت، أو كلانا معاً.. لكننا نُسلم بكل طواعية لما يُقترف بحقنا بحجة أننا لا نريد أن ننعزل في غرف الواقع بعيداً عن غرف الافتراض تلك التي تصلنا ببعضنا بعضاً، وتسلينا، وتبهجنا، وتجعلنا نتصل بالعالم من حولنا حتى في أبعد نقطة منه.
أما أسرارنا التي نفشيها على الصفحات فما عادت أسراراً بل أصبحت تصريحاً، وإعلاناً.. وهي تحاول ألا تذكرنا بيوم كان عيب أن نلقي أذناً، أو بالاً لقصة الجيران، وما يدور خلف أبوابهم حتى لا تذيع أخبارهم.. فما بالنا بما يجري خلف أبوابنا!.. تلك القيم التي تنشأ عليها المجتمعات عموماً باتت تهتز الآن بفعل ما هو متوافر، ومتاح.. وقصة بيت الجيران لم تعد قصة قابلة للكتمان.. وفضحها ليس في أمان، ويمكن لها أن تجري على كل لسان.
إن انتفاء الخصوصية مع الدخول إلى الشبكات الاجتماعية يجعل من معلوماتك الشخصية عرضة لأن يملكها طرف آخر خفي، بينما أنت تعرّف بنفسك عند الاشتراك، ومع كل ما تنشره من خلال الحيز المتاح لك.. ليُباع ويُشترى بك في أسواق (النخاسة) الرقمية للشركات التجارية التي تملك المواقع، وتجني من ورائك الأرباح إذ تبيعك مع بياناتك إلى الشركات الدعائية، وهذه الأخيرة تعمل جاهدة لكي تغريك باستخدام الألعاب، أو بالشراء. وأنت تتوهم الحماية من الجهة التي ائتمنتها على ما يُعرّف بك من صور، ومعلومات، في حين أصبحتَ في موقع المراقبة لمن يهمه أمرك، أو إذا ما كنت في موضع الشك!.. وليصبح لجدران المواقع الإلكترونية آذان تنصت باستمرار لهمساتك، وصيحاتك، وكل ما تجود به من خلالها في تواصلك مع الأصدقاء، والغرباء.
والأمر في حقيقته لا يقف عند تجسس المواقع فقط بل يتعداه إلى الهواتف الذكية، والتي لا يخونها ذكاؤها الاصطناعي في دورها كجاسوس سهل المهمة مادامت هواتفنا لا تفارق أيدينا.
فالأمن هنا والأمان هما افتراضيان بالمعنى الدقيق للكلمة.. وما الخصوصية الرقمية إلا ما يجعل منك رقماً بين الأرقام التي تُنتهك خصوصيتها لسبب، أو لآخر... وأنت جاهل تماماً بما يمكن أن يُستغل ضدك من معلومات ما كنت لتظن أنها ستأسرك، وتكبلك، وكنت تظنها لا أكثر من كلام في الهواء.
ومسألة الحفاظ على الخصوصية التي تُثار حقاً تثير لديك السؤال، إلى جانب المخاوف.. إلا أن اشتراكك بمواقع التواصل يدفعك دفعاً للاعتراف باسمك، وعمرك، وأرقام هواتفك، وعنوان بريدك، وسيرتك الذاتية، وصورك الشخصية، وكل ما يصل إليك وأنت تمهر ذلك بموافقتك على لوائح شروط استخدامها. والحل الوحيد لمن يرجو النجاة أن يغادر، وهو يقول في سره: أنا الآن في أمان.
وإذا كنا نعيب فيما مضى على مَنْ يتنصت، أو يتلصص على أبواب الجيران فإذا بالتنصت يرد إلينا من أبواب افتراضية لكن حصيلته من خلالها هي حقيقية.. فإذا ما سُرقتَ، أو سُرق بيتك فالأمر لا يعدو إلا أن يكون من صنع يدك.
والتطبيقات الإلكترونية المختلفة هي أيضاً ليست بريئة من التجسس، وانتهاك الخصوصية، وهي ترسل بمكر معلوماتها عنك لجهـــات محـــددة دون إعلامــك بـــذلك، وكأنه البـــاب الخلفـــي
الذي تتسلل منه في حال لم تكن نشطاً، أو مشتركاً على أيٍ من مواقع التواصل الشهيرة، وغيرها.
ومَنْ كان يظن أن تلك الوجوه الرمزية الضاحكة تارة، أو الساخرة، والبريئة في أشكال أخرى، والتي تظهر لنا لنستخدمها في التعبير، أقول مَنْ كان يظن أنها بإيحاءاتها المختلفة تتربص بمستخدميها لصالح الدعايات؟.. وهي إلى جانب غيرها من الرموز التعبيرية تدرس أحوالنا النفسية، وما هي عليه تعابير وجوهنا عندما قمنا باستخدامها لنكون صيداً سهلاً لموجة موجهة، ومدروسة من الدعايات لمنتجات تتوافق مع ما نحن عليه من أحوال نفسية قد نضعف معها حيال فكرة الشراء، والاقتناء.. بينما نساهم دون علم في المساعدة على ثراء تلك الشركات المعلنة يوماً إثر يوم.. والدائرة بين الشركات، والأسواق محكمة الإغلاق بحيث تحقق غاياتها من خلال أمزجتنا، وما تقع عليه اختياراتنا من الوجوه التي تقابلها السلع.
فما بالك بسوق علاجات الأمراض إذا ما فتح عليك من خلال الإعلانات، وما فيه من أدوية وعلاجات، وجراحات، إضافة إلى عروض التخفيضات.. في سوق للعمل هو الأنشط، وهو لا يهدأ، ولا يفتر.
وشركة (ألف عين) التي تراقب (الإنترنيت) عالمياً تنفتح منها كل عين، ولا أحد منا يعرف تماماً جميع اتجاهاتها، من أجل حصد المزيد من الأموال التي تسهم ضرائبها المدفوعة لدولها في تعزيز التنمية لديها.. والكل دون استثناء يسهم سواء عن دراية، أم دونها في تعزيز التنمية من خلال تلك الشركات عظيمة الثراء.. فهل من بعد ذلك من سؤال أو جواب؟!
* * *