وتحقيق الرفاه الاجتماعي, ولذلك سارعت جميعها إلى تطبيق وصفات صندوق النقد الدولي وتطبيق سياسة االتحول الهيكلي والتثبيتب المالي التي اعتمدها الصندوق حينذاك, ولكن عقد التسعينات اشتهر بالانهيارات المالية المتكررة التي ضربت اقتصادات دول أميركا اللاتينية الواحدة بعد الأخرى, بدءاً من المكسيك مروراً بالبرازيل وانتهاءً بالانهيار المدوي الذي شهدته الأرجنتين التي تراجع اقتصادها عشرات السنين إلى الوراء وخسرت كل ما حققته من إنجازات في عقود طويلة. وتأكد أن وصفات صندوق النقد الدولي لم تؤد في نهاية المطاف إلى ازدهار الاقتصاد وتحقيق الرفاه الاجتماعي, بل قادت إلى نتائج معاكسة: حدوث انهيارات مالية, وتراجع معدلات النمو بنسب عالية جداً, وانتشار الفقر والبطالة على نطاق واسع, وأدت هذه النتائج المحققة إلى اضطرابات اجتماعية في دول عديدة انتهت بانعطاف أميركا اللاتينية نحو اليسار ليس على الصعيد السياسي وحسب, بل على الصعيد الاقتصادي, وكانت البداية في البرازيل, حيث فاز حزب العمال, وتبعتها فنزويلا والأرجنتين والتشيلي وبوليفيا, لدرجة أن دول أميركا اللاتينية في غالبيتها تعتمد اليوم نهجاً اقتصادياً مغايراً للنهج الاقتصادي الذي يقترحه صندوق النقد الدولي, بل إن غالبية دول القارة أوقفت تعاملها مع صندوق النقد الدولي ومع البنك الدولي, وسارعت إلى تأسيس بنك الجنوب الذي سوف يتولى الدور الذي كان يلعبه صندوق النقد والبنك الدولي.
في ضوء هذه التحولات بدأت أميركا اللاتينية تستعيد مسيرتها التنموية من جديد, ولكن في أطر وفلسفة تختلف عن تلك التي سادت في عقد التسعينات, وتشير الإحصائيات والوقائع التي تنشر بأن معدلات النمو في البرازيل والأرجنتين وتشيلي وفنزويلا بدأت تحقق معدلات نمو مرتفعة بالمقارنة مع معدلات النمو في عقد التسعينات, وتراجعت معدلات البطالة والفقر, وبات توزيع عائدات النمو أكثر عدلاً عن ما كان عليه في السابق, وهدأت الاضطرابات الاجتماعية, وتحقق الاستقرار السياسي الذي هو شرط أساسي للتنمية, ووفر كل ذلك بيئة ملائمة لاستقطاب الاستثمارات المباشرة واستقبال الشركات الكبرى التي قررت هجر أوطانها الأساسية بحثاً عن اليد العاملة الرخيصة وكلفة الإنتاج المتدنية, للصمود في حلبة المنافسة الاقتصادية الآخذة في الاحتدام بعد ولادة أكثر من عملاق اقتصادي في العالم, ويرشح عدد من الخبراء والمحللين أكثر من دولة من دول أميركا اللاتينية لتحقيق نمو يشبه ما حدث في آسيا في عقد الثمانينات, حيث ولدت النمور الآسيوية التي مهدت لولادة العمالقة الاقتصاديين مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة.
في تقريره النصف السنوي عن آفاق الاقتصاد العالمي الذي صدر في تشرين أول الماضي يؤكد صندوق النقد الدولي بأن النمو العالمي شهد في الفترة بين عامي 2004 و2006 أقوى معدلاته المسجلة منذ أواخر الستينات وأوائل السبعينات, وقد زاد الناتج العالمي بمتوسط 5% في تلك الفترة, وبديهي أن صندوق النقد لم يتطرق إلى الأسباب التي جعلت هذه السنوات هي نقطة الانطلاق لهذا النمو وليس عقد التسعينات, ولكن ليس خافياً على أحد أن هذا التاريخ يصادف تراجع السياسات الليبرالية الجديدة, ووقف تعاون دول عديدة, وخصوصاً دول أميركا اللاتينية مع صندوق النقد الدولي, وهذا هو الذي أدى إلى ذلك, إذ يعترف التقرير بإسهام البلدان النامية الكبير في تحقيق معدل النمو المرتفع الذي خلا من التقلبات الحادة.