ويبدو أن الدبلوماسية الروسية قد ودّعت حقبة المهادنة، وباتت من الآن فصاعداً - وربما أكثر من أي وقت مضى – ملزمة من موقعها ودورها وحسب توقيتها، بتجميع الأوراق، وحتى شد الأحزمة لتصحيح الكثير من الاعوجاج الذي يلازم مواقف أطراف وقوى ودول تتعمد تشويه موقف روسيا انطلاقاً من الأزمة في سورية.
قد لا يكون بالأمر الجديد لكنه في الأيام الأخيرة يأخذ بعداً مضاعفاً في اتجاهين أساسيين الأول من خلال المماحكة السياسية لبعض الأصوات الدخيلة على السياسة وأعرافها وأصولها وأحكامها، والثاني عبر التصعيد والتسخين السياسي والإعلامي الممول دبلوماسياً من قبل أطراف وقوى وحتى دول تعمّدت أن تمارس سياسة التشويه للموقف الروسي.. من حرب التسريبات إلى التحريفات المتواصلة وصولاً إلى محاولات التشويه ومروراً بالتحميل على الموقف الروسي ما هو خارج النص نهائياً وبعيداً عن سياقه الأساسي، وليس انتهاء بالتطاول عليه.!!
الدبلوماسية الروسية التي اعتادت منذ بداية الأزمة مواجهة سيل الاتهامات، بكثير من الهدوء والتروي، تعيد ضبط الإيقاع على النغمة الروسية التي تعيد للمشهد الدولي توازنه، وتعلن من منصته العودة إلى المقارعة السياسية الإعلامية بما تحمله من نوازع الرغبة في الانفكاك من هيمنة القطبية الواحدة.
فمن يستعرض محطات الاستهداف للموقف الروسي وبالتوازي مع التسخين السياسي والإعلامي على الأرض وفي المحافل والمنابر، يدرك تماماً أبعاد ومعطيات الرد الروسي المحكم على الكثير من التقوّلات، ويدرك بالتالي أن التسامح الروسي مع كثير من الافتراءات التي طالته لم يعد متاحاً ولا ممكناً، وباتت الساحة الإعلامية - كما هي السياسية - نقطة مواجهة ساخنة لا تترك مجالاً للمفاضلة بين طريقين كليهما يقود في محصلته النهائية إلى النتيجة ذاتها.
فحين يردّ الوزير لافروف على التطاول الذي ذهب إليه رئيس ائتلاف الدوحة كان يقصد الرسالة ذاتها التي وجهها قبل بضعة أشهر لمشغلي ذلك الائتلاف ومموليه، وحين يعيد عقارب الساعة ليشدّها إلى الموقف الروسي المبدئي، كان يتعمّد أن يقرن الآخرين ساعاتهم وبالتحديد الدقيق بـتوقيت الكرملين.
وعندما يتوقف الوزير لافروف عند بعض التفاصيل بعدما أسهب في شرح العناوين، فإن الايقاع الروسي لم يعد مقتصراً على تفسير هنا أو رد هناك بقدر ما يعكس قراراً واضحاً بتجاوز الرد على مستجدّ في السياسة هنا أو على متغطرس هناك أو على صبية ومراهقي الساحة الدولية، ويبتعد في الإجابة عن ترهات التفسير المجتزأ والمغلوط، ليصل إلى توجيه رسائل روسية واضحة وجلية بأن الاختباء خلف الأصبع لم يعد مسموحاً.
في عالم السياسة حين يبدأ ضبط الإيقاع على التوقيت الروسي، ثمة مؤشرات واضحة على الاقتراب من الذروة التي تقف عند المفترق المفصلي، وعلى الجميع أن يحضّر لما تنطوي عليه من مشاهد سخونة تأهّبت لها الدبلوماسية الروسية وحضّرت أوراقها وأدواتها، أو الانتقال إلى الضفة الموازية للتفتيش عن مخارج وفق منطق ومبادئ السياسة الدولية.
الإيقاع الروسي يحمل نواظمه السياسية والإعلامية والدبلوماسية والأخلاقية، ويدفع بالمشهد إلى إعادة تموضعه داخل الحلبة الدولية التي تضبط حراكها اليوم على إيقاع الحدث السوري، وترسم معطياتها من بوابة الإقرار بالخروج من قمقم الأحادية على نبض الصمود السوري في المواجهة، وأن التوقيت مرتبط أساساً وبشكل جوهري بما يتمخّض عن هذه المواجهة المفتوحة، وقد حدد الجميع موقعه داخلها، وحين تحدد الدول والقوى موقعها، فإن الأدوات والمرتزقة والمستجدين في السياسة والدور والموقع يعودون إلى أحجامهم الطبيعية، وقد حان موعد العودة!!
a.ka667@yahoo.com