وفي مقطع آخر من المقابلة التي أجرتها معه مجلة دير شبيغل يقول: يمكن لأميركا أن تكون قوة عظمى ليس فقط بامتلاك القوة؛ وإنما بتمتعها بالحكمة، مؤكداً أنه ليس هناك دولة قوية وحكيمة بما يكفي لتصنع وحدها نظاماً عالمياً جديداً!!.
كيسنجر ذاته في كتابه «النظام العالمي» كان عبّر عن إيمانه العميق بقدرة القوة العسكرية على الفرض، كما أنه عبّر عن قناعته بأن هذه القوة لا تزال في يد واشنطن وليس في يد بكين أو موسكو، فهل تغير كيسنجر؟ أم أن ثعلب السياسة الأميركية صار هرماً وخرفاً؟.
وكيسنجر الذي يُعتقد أنه ما زال فاعلاً في السياسة الأميركية؛ أو ما زال في أضعف الاحتمالات مُلهماً لصنّاعها ومُستشاراً لهم - باعتراف سلف الوزير كيري «هيلاري كلينتون»وغيرها - كان الدبلوماسي الوزير لا يلجأ للعمل بالدبلوماسية إلا عندما تفشل القوة بتحقيق الهدف؛ فما الذي تغير ليطرح مفارقات غريبة في هذه الأيام؛ وما الذي تبدل ليتحدث وهو في خريف العمر عن الحكمة وعن بؤس استخدام القوة والقوة المفرطة بغرض فرض الإملاءات على الآخرين لصياغة نظام عالمي جديد، وما قصة التحول المفاجئ الحاصل لديه؟ وهل يعني ذلك استشعاره مخاطر العدوانية الأميركية على أميركا ذاتها التي اشتغل طويلاً على بناء إمبراطوريتها؟ أم أنه أمسى غير مؤمن بأن بناء هذه الإمبراطورية هو أمر عظيم يستحق ركوب المخاطر وخوضها؟.
كيسنجر المُتحول، بل ربما تحوّل كيسنجر؛ يعتمل على نحو ثابت مؤشرات خطيرة على مستقبل الولايات المتحدة استشعرها الرجل وأراد أن يُخرجها إلى العلن ليس الآن؛ وإنما منذ اللحظة الأولى بالغة الخطورة التي وجد أنها باتت تلف «السعودية» الحليف الأبرز لبلاده؛ والتي تلمسها بوضوح مؤخراً، وهو ما يعني في قاموسه تهديد إسرائيل والمصالح الأميركية - الغربية العليا مباشرة.
وكأن كيسنجر يريد أن يقول لإدارة أوباما: ينبغي عدم التفريط بمكتسبات الأمس البعيد إذا كان من غير الممكن تحقيق مكتسبات جديدة، بل كأنه يقرع ناقوس الخطر قرعاً شديداً محذراً من تحولات كبرى ستنشأ؛ ومن انهيارات عظيمة ستقع؛ ما لم يستدرك البيت الأبيض أخطاءه؛ وما لم يمتلك جرأة القيام بفعل الاستدارة؛ بل ولو اقتضى الأمر التراجع عن كل المواقف السابقة في أوكرانيا وسورية والعراق ولبنان وأفغانستان ومع إيران أيضاً!!.
يرى كيسنجر، يحلل ويحذر، يقرأ الأحداث ويخطط، يرسم خطوطاً بيانية للقوة العالمية صاعدة وهابطة؛ وهمه الأوحد إسرائيل ومصالح بلاده، لكننا ومعنا الأصدقاء والحلفاء نفعل بوعي وطني؛ ونصنع المستقبل بتحد مُكوّنات عجينته الكرامة والسيادة والاستقلال، وسواء تراجعت العدوانية الأميركية وأذرعها؛ أم انكفأت تكتيكياً، فإن شيئاً من هذا أو ذاك لن يدعنا نستكين أو نطمئن؛ ولن تتوقف المواجهة الدائرة إلا بتكسر مخططات الشر الصهيونية - الأميركية.