تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


تأمل خريفي

معاً على الطريق
الأربعاء 7-9-2016
أنيسة عبود

(أتعرف، جاء أيلول)

يعني الورق الأصفر الذي يتكدس تحت شجرة الصفصاف التي تحرس مدخل القرية. تلك الشجرة التي ترصد من يدخل ومن يخرج. من يحمل ورداً لحبيبته ومن يهرب من عيون النوافذ ليلاقي نافذة مقابلة. من يذهب إلى العسكرية ومن يعود محملاً بالحلوى.. ومن يغيب طويلاً ثم يعود مستشهداً.‏

أتعرف؟ مساءات أيلول الباردة تجعلني أغلق النوافذ وأرتاح قليلاً من هدير الطائرات التي ترج المنزل وتسبب لي ألماً في الرأس.. أركن قليلاً إلى الهدوء وأسمع نشرة الأخبار التي صارت عادة لا بد منها كما لو أنها فنجان قهوة صباحي.. لكن الأخبار أشد هديراً من صوت السوخوي وأكثر ضجيجاً من خفق قلبي الذي يعلو كموج البحر.. لم يعد أيلول كما كان.. صار له رائحة الموت والفراق والحزن الأبدي الذي لن يفارقنا حتى تفارقنا الحياة.‏

صحيح أن أيلول كان يرسل إلي موجات حزن شفيف ولحظات من التأمل الرهيف فابدأ بالكتابة لك وللأمكنة التي تلقفت خطواتنا ونثرنا عليها همسنا وأوجاعنا. اليوم صار أيلول فضاء للوداع والحزن وفتق الذاكرة على مدن وقرى وأحبة غابوا عن خريطة التواصل.. لقد صمت كل شيء.. لا كلام يأتي من الجنوب ولا كلام يأتي من الشمال.. كلنا نتقوقع بورق أصفر وصمت لا نهاية له وكأننا مقيدون إلى نهايات ننتظرها ولا ننتظرها فماذا وكيف تكون نهاية أيلول؟‏

وكيف سيأتي الشتاء بعده؟‏

كيف سيكون شكل المطر وشكل المدن وشكل الناس؟ أنا لا أدري. كل ما أعرفه أن أيلول هذا العام لا يحثني على الكتابة.. حتى رسالتي إليك لا أعرف إن كنت قادرة على إنهائها أم لا.. لكن عندي سؤال للشهداء الذين وضعوا صورهم على مداخل البلدات والقرى منذ خمس سنوات وأكثر، أما تعبوا من الوقوف في عين الغيوم وعين البرد.؟‏

لكن عيونهم المبتسمة تقول غير ذلك.. ووجوههم الفتية المتفتحة كوردة جورية تقول بأنهم يراقبون المكان والزمان وأنهم مرتاحون في بيوتهم الجديدة. يصافحون العابرين بنظراتهم وقلوبهم بعد أن قدموا أرواحهم لتراب الوطن.‏

أتعرف. أحياناً تجتاحني رغبة بالوقوف أمامهم والنظر في وجوههم وأنا أخاطبهم. وأسلم عليهم وأسألهم عن الأحوال.. لكنهم يظلّون صامتين مبتسمين لا يردون.. وأعتقد أنه لا حاجة للرد.. فصمتهم يكفي ليوصل الرسالة الحزينة التي لا أحد يعرف ما هي نهايتها؟ لقد تعبوا من انتظار النهايات.. وكلما جاء أيلول نقول : هو آخر حزن أيلولي.. غير أن الحزن لم ينته.. والبلاد لم تعد من غيابها بعد.. ونحن لا نكف عن الشكوى والأنين وتذكر ماضي السنين.. لكن ما نفع التذكر والبلاد لا تتذكر؟‏

أتعرف؟ كنت أنتظر أيلول حتى أبدأ بجرد الحياة، مرّها وحلوها لأن أيلول صديقي.. وورقه الأصفر يحرض ذاكرتي على العمل.. الآن أيلول لا يقدم لي الحزن الشفيف.. بل يقدم لي القهر الطاحن والغضب الذي يدمر خلايا التأمل.. طيران يصعد وآخر يهبط فترج الأرض والذكريات وترتجف الجدران والأشجار وليس من خيار أمامك إلا أن تصبر.. ولكن إلى متى.؟ لقد فقدنا الصبر والتأمل والإحساس الجمالي بالحياة.. وعلى الرغم من آلاف الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم لنكون سعداء إلا أننا لسنا سعداء.. فهل من تعاسة أكثر من أن ترى العرب يدمرون العرب؟ وهل أكثر تعاسة من أن تصمت والغريب يتحدث عنك وعن بيتك ويقرر ماذا تأكل وأين تجلس ومتى تتكلم؟‏

أعرف أنك تشعر بالغربة وأنت في وطنك.. وتشعر بالشوق وأنت أمام أحبابك.. فكيف إذا كان الوقت أيلول وورقه الأصفر بدأ بالتساقط على روحك بينما يجتمع الغرب القاتل ليقرر عنك شكل البلد وحدود البلد ومستقبل البلد؟ هل تقدر بعد ذلك أن تتأمل وتكتب رسائل حب؟.. هل تقدر أن تغير اتجاه سريرك أو باب بيتك؟‏

هل تقدر أن تعود بالذاكرة إلى الوراء وترى وجهي القديم ووجهك الجديد وأيلول يهطل بيننا ولا تصرخ ( آخ ).‏

لا ترفع صوتك -بالآخ -كثيراً لأن الشهداء الذين يحرسون بوابات منازلهم سيحزنون وسيعتبون عليك. فإذا كنا نحن نقول – آخ – فماذا يقول هؤلاء الخالدون؟‏

أتعرف.. الصمت هو أفضل رسالة.. قد تصل أسرع من أنيننا.‏

لو أننا نخرج من ذهولنا ونركض وراء المطر بما نستعيد بعض اخضرارنا.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 أنيسة عبود
أنيسة عبود

القراءات: 714
القراءات: 860
القراءات: 765
القراءات: 726
القراءات: 770
القراءات: 681
القراءات: 707
القراءات: 911
القراءات: 957
القراءات: 788
القراءات: 766
القراءات: 804
القراءات: 796
القراءات: 882
القراءات: 785
القراءات: 774
القراءات: 766
القراءات: 849
القراءات: 758
القراءات: 908
القراءات: 773
القراءات: 823
القراءات: 903
القراءات: 985
القراءات: 788

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية