هذه الديناميكية التي هي سمة مهمة من سمات البراغماتية السياسية هي التي تفسر إلى حد بعيد النهج الذي بدأت تتبعه الإدارة الأميركية في عهد الرئيس باراك أوباما، فالولايات المتحدة الأميركية بدأت تدرك الكلفة الباهظة لسياساتها القائمة على التدخل بالقوة الصلبة بمظاهرها العسكرية وما يترتب عليها من خسائر بشرية واقتصادية تستنزف الاقتصاد والمجتمع الأميركيين، إضافة إلى مساهمتها في زيادة تشويه صورة أميركا على المستوى الدولي وإظهارها قوة غاشمة استعمارية، ما يراكم من حجم كراهيتها ونبذها عالمياً.
ومع تنامي دور قوى صاعدة بدأت تستعيد وتحتل مكانة لها في المشهد الدولي بحكم قوتها الاقتصادية والعسكرية وتراجع عناصر القوة الأميركية ولاسيما الاقتصادية منها بدأت الإدارة الأميركية في عهد أوباما الحديث عن قيادة للعالم تقوم على الشراكة بدل الاستفراد والحوار بدل القوة، وهو ما جاء على لسانه في خطاب التنصيب في فترة ولايته الثانية وعززه في اختياره لفريقه السياسي الذي يعكس إلى حد بعيد مقاربته للبعد بين الداخلي والخارجي في تصميم سياساته العامة.
إن الحديث عن توجهات عامة للرئيس الأميركي لا يغير من حقيقة أن الولايات المتحدة الامريكية دولة تحكمها وترسم سياساتها العامة مؤسسات كبرى، كالكونغرس والبيت الأبيض والبنتاغون وجهاز المخابرات، وقبل ذلك المجمع الصناعي وشركات البترول ووول ستريت القوة المنتجة والفاعلة الحقيقية لمدخلات السياسة الأميركية ومخرجاتها وهذا يعني بالحاصل السياسي أن ما يستوجب أو يستلزم هكذا توجهات أو سياسات هو حقائق تشكلت على الارض تحكمها موازين قوة جديدة وليست نزعة أخلاقية هبطت فجأة من السماء على ساكن البيت الأبيض.
من هنا تأتي أهمية مقاربة هذه الحالة ووضعها في إطارها الصحيح والتعامل معها بمنطق التحليل الموضوعي، ففكرة الهيمنة والسيطرة والاستئثار لم تغادر الثقافة السياسية الأميركية بل هي عنصر أساسي في طبائعها، ولكن المسألة تتعلق في الأسلوب أي استبدال القوة الخشنة بالقوة الناعمة وحسب مقتضى الحال وبمنظور الكلفة ومعيار الربح والخسارة، فالامبراطورية «الشركة» لا تتعامل إلا بهذا المنطق.
لقد تنازعت التوجهات الأميركية في اطار رسم الاستراتيجيات العامة رؤيتان عسكتهما مراكز الدراسات ومؤسسات البحث المنتشرة على مساحة الجغرافيا الأميركية في إطار الإجابة عن سؤال اشكالي أقلق بعض الأميركيين، وهو لماذا يكرهوننا؟ فكانت الإجابة هي أن اتباع سياسة العصا الغليظة والقوة الخشنة في العلاقات الدولية هي السبب الرئيس والجوهري الذي يفسر تلك الكراهية، فلابد من اتباع سياسة العصا والجزرة، الترغيب والترهيب وضرورة استخدام القوة الناعمة والذكية لتغيير تلك الصورة النمطية، وهو مااقترحه جوزيف ناي الأميرال السباق والأكاديمي المتخصص الذي وجد أن لا سبيل أمام أميركا كي تحافظ على نفوذها العالمي، إلا أن تقدم جاذبية النموذج الأميركي السياسي والأخلاقي والثقافي على معطى القوة العسكرية أي القيادة بالقوة الناعمة بدل القوة الصلبة.
إن مكمن الخطورة في تلك التوجهات يكمن في أن لا تغير جوهرياً وبنيوياً في السياسات العامة، وإنما في الأساليب وهذا يعني بالمحصلة أن خيار استعمال القوة لم يستبعد وإنما تراجع في الترتيب من أولاً إلى ثانياً وثالثاً ربما، وهذا يحيل الباحث عن إجابة الى جذر تلك السياسة وهي مقولة الرئيس الأميركي تيودور روزفلت: تكلم برفق واحمل عصا غليظة؟
khalaf.almuftah@gmail.com