فالعملية الدفاعية الناجحة التي قامت بها قوات الدفاع الجوي السوري تمت بعد سلسلة من المواقف العدوانية الغربية التي كان آخرها دعوة اميركا وفرنسا للجيش السوري بالتمرد على قيادته والاقتداء بسلوك ضابط طيار خان وطنه وفر بطائرته ال ميغ 21 ليكون مرتزقاً عميلاً للمخابرات البريطانية التي نظمت عملية الفرار واستقبلته على ارض الاردن فور وصوله.
ثم ان اختراق السيادة السورية من قبل الطائرات التركية جاء بعد الانتهاء من مناورات «النسرالمتحلق» التي شاركت فيها قوات عربية واطلسية في السماء التركية و رأينا فيها يوم ذاك تلويحاً بعمل عدواني ما ضد سورية للضغط عليها كما كنا ربطنا بين مناورات «الأسد المتأهب» التي جرت بقيادة اميركية على الارض الاردنية بمشاركة كل الدول التي تتأثر اوتؤثر في الازمة السورية .
وعلى المقلب الاخر جاءت العملية بعد الصاروخ البالستي الروسي الذي قلنا عنه يومها بانه حمل رسائل سياسية واستراتيجية هامة اكدتها حركة الاسطول الروسي باتجاه طرطوس ، ومواقف كل من الصين وايران الثابتة والرافضة لاي تدخل اجنبي عسكري اوغير عسكري في سورية .وهي مواقف جاءت متطابقة ومتقاطعة مع ما ابلغه بوتين لاوباما واكد عليه لافروف وزير الخارجية الروسي من رفض قاطع – حتى ولواستلزم الامر الخروج عن الدبلوماسية – لاي تدخل عسكري اجنبي في سورية بقرار اومن غير قرار من مجلس الامن ، لان من سورية سينطلق النظام العالمي الجديد ولن تسمح تلك القوى بان تنقل سورية بالعدوان العسكري عليها الى الفضاء الاستراتيجي الغربي كما تريد اميركا لاقامة «شرق اوسط اميركي كبير» . فسورية يجب ان تستمر حيث اختارت وتمسك شعبها بموقعها الرائد في المنطقة حفاظا على حقوقها في اطار «شرق اوسط لاهله «
على هذه الخلفية يمكن فهم العملية الدفاعية الجوية السورية والوقوف على مفاعيلها وتداعياتها المستقبلية .
وننطلق من الدعوة الغربية الوقحة للجيش العربي السوري بالتمرد على قيادته فنرى ان الغرب بالقيادة الاميركية لم يطلقها ولم يتخذ مواقف تدخلية سابقة ، الا لانه مستمر في تصور نفسه انه هوالمستفرد بقرار العالم ، وانه يأمر حيث يشاء وعلى الاخرين السمع والطاعة. ورغم كل الصفعات والخسائر التي تكبدها خلال العقدين الماضيين ورغم ان البيئة الاستراتيجية العالمية تشهد تغييرا جذريا ، رغم كل ذلك يبدوان الغرب عاجز عن تفهم التغيير هذا ويصر على التمسك بعنجهيته واعتقاده بانه هومالك العالم وحاكمه ، وبهذا المنطق يسمح حكام الغرب لانفسهم بان يقرروا شرعية هذا ويسحبون الشرعية عن ذاك من الحكام ويغزون هذا البلد ويدمرونه ويعطون الاشارة لهذا الشعب اوذاك بان ينتفض على الحاكم ويثور عليه اويأمرون حاكما اودولة اخرى بالتصدي للشعب المطاللب بالحرية والعدالة والمساواة بين المواطنيين ، سلوك يعتمد بالنظر لانصياع الحاكم للغرب واطوعيته له ..
وبهذه الذهنية الاستعمارية الاستعلائية جاء الاميركي كولن باول في العام 2003 الى سورية ليفرض الاملاءات وجاءت الان الدعوة الوقحة التي وجهتها اميركا وفرنسا للجيش العربي السوري بان يتمرد على قيادته ، وحاولت ان توحي بانها جاهزة لحماية التمرد بغطاء جوي واقعي يؤمنه الطيران التركي ، الذي كما يبدوارسل طائراته لجس نبض الجيش العربي السوري لكن إسقاط الطائرة أفشل مخططاته الأطلسية ورسم المشهد التالي :
1) ان سورية جادة في الدفاع عن نفسها وعن سيادتها وبكل ما هومتاح لديها ولن يثنيها عن ذلك تهويل اوابتزاز . ثم انها تملك من القدرات ما تستطيع ان تنفذ به قرارها الدفاعي هذا وان الحرب التي شنت عليها حتى الان لم تمس بقدراتها تلك ولم تؤثر على قرارها الدفاعي الحازم والحاسم مطلقاً .
2) ان الجيش العربي السوري -وهوالجيش العقائدي المتماسك المنضبط- ، يقظ وكفؤ ولن تؤثر فيه خيانة ساقط ضعيف ولا يمكن ان يتخذ من خائن قدوة له ، وبالتالي لا يمكن ان يستجيب لدعوة عدوويستسلم ، بل انه مستمر في الدفاع عن وطنه كما هوتاريخه وعهده في المواجهة ، ولهذا كان الرد على دعوة الاطلسي له بالتمرد رداً عملياً بليغاً تمثل باسقاط طائرة الاطلسي فوق المياه الاقليمية السورية سقوط رفع معنويات السوريين واكد ثقتهم بجيشهم .
3) ان حلم فرض الحظر الجوي فوق سورية الذي يراود افكار البعض على غرار ما طبقته اميركا فوق العراق في العام 1991 ، كما وفكرة المناطق اوالممرات الامنة التي يحميها طيران اطلسي هي اضغاث احلام وافكار غير قابلة للتنفيذ ، لان الدفاع الجوي السوري جاهز لاجهاضها ويمتلك القدرات العسكرية لذلك ولديه الارادة والعزيمة للتنفيذ وكما اسقط الطائرة التركية فانه جاهز لمواجهة سواها الامر الذي يجهض معنويات «جيش الارهاب الحر» وحاضنيه.
4) ان السكوت المطبق الذي مارسه الغرب عقب اسقاط الطائرة ولمدة يومين ،ثم ما اعقبه من مواقف سياسية مرتبكة يؤكد بوضوح كلي حالة الصدمة والذهول التي اعترته. وقد يكون اتكأ في البداية على واقعة اختراق الطائرة للمجال الجوي السوري واعتراف تركيا بالخطأ ، وعلى حق السوريين بالدفاع المشروع عن النفس حتى يبرر هذا السكوت (مع اننا نعلم بان الغرب لا يقيم وزنا للقانون الدولي ان كانت قواعده في غير مصلحته). لكن السبب الحقيقي للسكوت عائد الى ما استشعره الغرب من جدية وقدرة سورية وتالياً تحالفية على المواجهة الدفاعية من جهة ، وعلى عدم قدرته اواستعداده لمثل هذه المواجهة المباشرة من جهة اخرى رغم ان تركيا اشارت سابقاً الى رغبتها في تطبيق معاهدة الحلف الاطلسي وطلب «دعم الغرب لها ضد سورية عسكريا» ...!!!!. وبهذا يكون السكوت قد وجه رسالة صارخة الى تركيا بانها ستكون وحدها في المواجهة ، ولن يغير في هذا التصور دعوة الاطلسي للانعقاد غداً (اي بعد 4 ايام من العملية ) اذ لوكان في الامر اهتمام غربي اكثر بالرد لانعقد الاجتماع في ال 24 ساعة التي تلت اسقاط الطائرة.
5) ان الجدية والحسم الذين اظهرهما الرد الدفاعي السوري سيفرض على الغرب اعادة النظر بكل مواقفه وخططه العدوانية على سورية والتي كانت تقوم اساسا على فكرة التدخل العسكري ودعم الارهاب ورفض الحل السلمي الذي يعلم الغرب انه سيثبت سورية في موقعها بعيدا عن فلكه .
وعليه سيكون الاستنتاج الاهم على ضوء ما ذكرنا ،متمثل في كون العملية وضعت الغرب امام اختيار جدي بين امرين :
- التصعيد والمخاطرة بالمواجهة العسكرية الشاملة التي لا يمكن لاحد ان يحصر حدودها وهوغير جاهز لها.
- اوالعودة الى الرشد والواقعية والادراك بان الزمن تغير وانه خسر قيادة العالم وعليه ان يعترف بالاخرين ويحاورهم بجدية دون غطرسة واملاء .
ونعتقد بان الاتجاه الاقوى سيكون هوالخيار الثاني ولن يخرج الاطلسي بقرار رد عسكري على سورية ، ولهذا يحتمل ان يفتح هذه المرة الطريق جديا – اذا استوعب الغرب القضية - امام الحل السلمي الذي تنشده سورية وحلفاؤها . والا استمرت المواجهة وتفاقمت خسائر الغرب وادواته لان سورية ضمنت النصر لشعبها المحتضن لحكومته ونظامه حتى ولو ارتفع الثمن .
* أستاذ جامعي وباحث استراتيجي