وللمنتج الثقافي المتغيرات التي طرأت عليه من تحولات كثيرة من حيث الدلالات والأسلوب والمحتوى. وهذا من الطبيعي جداً أن يحصل، إذ لا بد من متغيرات ستطول الأفكار والذاكرة والماضي والمستقبل بعد تسع سنوات داميات وبعد آلاف الشهداء وآلاف البيوت المدمرة والمزارع المحروقة والمصانع المنهوبة وتدني سعر صرف الليرة السورية والشعور بعدم الأمان.. لكن هذه التحولات التي طالت البشر والشجر والحجر بقدر كبير، ربما تركت بصمتها سريعاً على نتاج المثقفين وتجلت عبر أشكال متعددة في السرد الأدبي والتخييلي لأنهم نقلوا القلق الصامت والمتغيرات إلى الورق.. أي إلى العلن.. وبالتالي انتقل كل شيء إلى القارئ، خاصة الأجيال القادمة التي ستتلقى المادة بطريقة مختلفة عن الآن.
فهل ستتقبل الأجيال هذه التحولات؟
وهل ستقنع بمبررات الكاتب؟
ثم هناك سؤال مقلق آخر.. ترى كيف سيكون التأثير على هذه الأجيال؟ وهل ستجد الأجوبة على أسئلة مصيرية طرحها الكتاب الذين يمثلون ذاكرة شعوبهم ومؤرخين لزمن سيصير ماضياً؟
هذا هو حال الكتابة وحال أسئلتها التي خرجت من أتون الدم والنار والاعتداءات الغربية والرجعية العربية التي اصطفت خلف الساطور وراحت تأمر بالقتل.
قد لا يكون من المستغرب أن يضيّع الكثير من الكتاب البوصلة.. ولا يعرفون كيف يجدون مصباح ديوجين.. وإذا ما وجدوه قد لا يسيرون في نوره.. بل ربما ازدادوا عماء على عماء.
فالمثقف ابن بيئته وعشيرته وهو يرتدي عادات مجتمعه وحتى يكون (رائياً) بالمعني الفكري والتاريخي عليه أن يخرج من عباءة هذه العادات والتقاليد ويمنع نفسه من الانصياع للأفكار الجاهزة التي شربها مع حليب أمه.
هنا تأتي خطورة النص المكتوب الذي لا يغوص في عمق الأحداث ولا يحلل الأسباب والنتائج الصادرة عنها، لأنه يعتبر بمثابة الوثيقة المصدقة والتي ستصل إلى رؤوس النشء الجديد. فتكون وثيقة خطرة إذا ما تضمنت مؤثرات أخرى قد تغذي النزعات الطائفية أو العرقية أو التطرف الديني وغير ذلك؟.
من هنا على الكاتب المبدع أن يتحلى ببعض صفات الرسول المتسامح، وأن يدرك مدى تأثير الحروف المتسامحة في المستقبل على الرغم من إيمان الكثير من الكتاب بأن لا جدوى من الكتابة في عصر الانترنت الذي غير كل قواعد الاشتباك الفكري مع الكاتب ومع القارئ. إلا أننا ندرك جميعاً أن هناك روايات عالمية أرَّخت للحرب وكانت أكثر تأثيراً من مراجع تاريخية كثيرة. ربما لأن الكاتب جسد أحداثه عبر شخوص مقنعين، محبوبين.. فأحبهم القارئ وتأثر بهم بحيث صاروا مرجعية أدبية وتاريخية معاً.
للأسف.. هناك نتاج أدبي كثير وخاصة الروائي منه.. وللأسف.. جاء على لسان كتّاب متطرفين ومرتبطين بأنظمة معادية للشعب السوري وللوطن السوري.. وهذه الكتابات تعاني من ضعف في الأسلوب وفي الموهبة إلا أنها غنية بلغة متطرفة، حاقدة تؤجج الفرقة والعداوة ولا تدعو إلى التسامح أو المحبة.. لدرجة أن هناك بعض الروايات ليست روايات.. بل هي عبارة عن سجلات وإعلانات لأحداث يكتبها شخص ما كما يراها هو وليس كما يراها العقل ولا كما تكون في سياقها المتسلسل والمنطقي للأحداث.. وللعلم.. لقد كثر كتّاب الرواية في هذا الزمن.. زمن الحرب والعدوان على سورية.. وخرجت من هذه الأزمة أسماء كثير لم تكتب قبل ذلك.. غير أن نزعة الحقد والتطرف دفعا بكثيرين لمزاولة الكتابة كيفما كان طالما لديه المال الذي يساعده على الطباعة ينشر تهويماته وعزفه المقيت.. فالساحة مفتوحة ولم يعد هناك من ضوابط تضبط اللاعبين بها.
وهنا لا أقصد بالضبط.. الضبط الرقابي على الفكر فقط، بل أقصد رقابة الجودة.. جودة الكتابة وجودة الأسلوب والموهبة ومقدرة النص على التمازج بين الخيال والواقع.. بحيث لا تكون الكتابة مجرد صف كلام بكلام.. وهذا صار لدينا منه الكثير في سورية وخارج سورية.. وأكتفي بالتلميح ولن أسمّي أو أزيد.. لأن الزمن وحده سيكشف أوراق اللاعبين وسيفرز الغث من السمين..