في هذه الحقبة كانت الحرب مع إسرائيل متوقفة لكنها غير باردة.. الاشتعال شبه يومي
، تتناوب عليه ثلاث قوى عربية، الجيش السوري في جبهة الجولان والجيش المصري في جبهة القنال والعمل الفدائي الفلسطيني على كل الجبهات.
لكن.. غالباً كل جبهة تعمل لوحدها..
لاشك أن التنسيق بين سورية ومصر كان قائماً.. وأيضاً لم يكن في البلدين عداءات للعمل الفدائي.. إنما هو اختلال الرؤية وخلل التقديرات.. حس الهزيمة يسيطر على كل شيء وعلى الجميع، فيدفع إيجاباً بالتنسيق والاستعداد للمعركة وسلباً بالحماس المبالغ والمضي بعيداً وراء الشعارات.
داخل سورية كان هذا الخلل موجوداً.. هناك من يعوِّل على الجيش والاستعداد العسكري.. وهناك من يعوِّل على «حرب التحرير الشعبية» وهذا لم يخلق خلافاً داخل القيادة السورية، بل هو في الحقيقة كان عرضاً لخلاف ليس في سورية من لا يعرف بوجوده.. وكثيرون من الشطار استغلوا ذاك الخلاف..
تبنى حزب البعث العربي الاشتراكي منظمة للعمل الفدائي «الصاعقة» وهو للأمانة والشهادة التاريخية لم يبخل بالتأييد والدعم لكافة فصائل المقاومة الفلسطينية دون تردد، لكنه أنشأ منظمة ترتبط به بشكل كامل.. وعلى هامش ذلك هناك من فاخر فكابر فقال: هذه هي البديل..؟!
بديل عن ماذا..؟!
لا جواب محدد بدقة، إنما نظر لما عرف بحرب التحرير الشعبية أنه بديل عن الحرب بين الجيوش النظامية.. ومرة أخرى أقول: إن تعاكس النظرتين كان قائماً في سورية، لكن ليس لدرجة أن يتخلى أحد عن طرف من المعادلة.. يعني أنصار الجيش النظامي لا يعترضون على أهمية حرب التحرير الشعبية في المعركة.. وكذا أنصار هذه الأخيرة لا يستغنون عن الجيش النظامي، إنما الحكاية بما فيها تصفية خلافات.
وسط هذه الظروف وقعت في 2 نيسان 1970 معركة هامة بين القوات السورية والإسرائيلية.. ذهب ضحيتها العديد من الشهداء.. وأكد الناطق العسكري سقوط طائرتي فانتوم للعدو.. وقد تم أسر طيارين إسرائيليين واحد برتبة رائد والآخر برتبة ملازم أول..
هي المعركة المعروفة باسم بسام حمشو الطيار الشهيد الذي أسقط الطائرة الإسرائيلية، ولم يستشهد في هذه المعركة.. بل فيما بعد.
جلسنا مساء.. صديقي عبد الحميد وشلة من أصحابه وأنا.. وعبد الحميد هذا خطير جداً.. أحضر أعداد الثورة من 1 إلى 20 نيسان.. انتبهوا ماذا أراد:
أن يظهر انحيازنا اللامنطقي كصحيفة سورية تمثل الحكومة.. تحتفل بذكرى تأسيس الحزب على مدى ثمانية أيام وعلى كامل صفحاتها.. وتحتفل بذكرى الجلاء في عدد واحد وبشكل شبه بائس. وقال:
- هناك صحيفتان «الثورة والبعث».. الأولى حكومية والثانية للحزب.. الأولى يكون اهتمامها بالجلاء.. والثانية بذكرى التأسيس.. فما بالكم – ما شاء الله – نافستم صحيفة الحزب في الاحتفال بذكرى تأسيسه ونسيتم الجلاء إلا قليلاً..
- الجلاء مناسبة تاريخية..
حاولت أن أكمل، لم أجد تعبيراً يسكت هذا «الخطير» عني.. قال:
- اسمع.. لن تجد الإجابة.. ولاسيما أنك موضوعي..
- ماذا يعني موضوعي..
- لست حزبياً.. وبالتالي لايفرض عليك الالتزام بمواقف لاتقتنع بها..
- هل ينطبق ذلك عليك..؟!
- بالتأكيد..
- كيف..
- أنا إلى الآن أفسر كل شيء كما شرح أنطون سعادة..
- إذن لماذا زعلك..
- أنا أتحدث عن جريدة حكومية وليس عني وعنك..
- هي جريدة بعثية..
سكت ليس لأنني أحرجته بل لينقلني إلى ما هو أخطر.. مستعيناً علي بشلة أصدقائه.. قال:
- هذا أجمل عدد صدر من صحيفتكم..
- ما هذه الأعداد كلها..
- لا تخف هي للدفاع عنكم..
- عن من ..
- عن جريدتكم..
- كيف..
- أنتم مورطون بالخلافات القائمة في القيادة بما يصعب مهمتكم..
وأخذ يشرح..
العدد الذي اختاره كأفضل عدد هو الذي تتصدره أخبار معركة 2 نيسان 1970 مع العدو الصهيوني.. وفيها العديد من صور حطام الطائرة الإسرائيلية وفيها صورة للفريق حافظ الأسد وهو يستقبل الطيار بسام حمشو..
وفي العددين التاليين هناك وجود لافت للفريق الأسد.. مرة يكرم الراعي الذي ألقى القبض على الطيارين.. ومرة يزور التشكيل البري الذي خاض المعركة..
ويرى عبد الحميد وأصدقاؤه أن دخول معايير الخلافات ولأي طرف تتبع قامت الصحيفة بعد هذا التألق الذي عرضته للفريق الأسد بنشر أخبار انتصارات للصاعقة على أكثر من عشرة أيام.. وكلها بالمانشيت والقتلى من العدو بالعشرات..
سمعتهم حتى النهاية ثم قلت:
- أي وبعدين..
- طرف قال هذا جيشي الذي أشرف على إعداده.. وطرف قال هذه منظمتنا طريقنا إلى حرب التحرير الشعبية.
- أنا لا أنفي خلافات القيادة، وتباين المواقف.. لكنني لا أعتقد أن الأمر أكثر من صدفة.. أخبار العمل الفدائي وبشكل خاص الصاعقة تنشر يومياً تقريباً.. وعلى الصفحة الأولى.. وبالمانشيت.. وكذا أخبار الاشتباكات المسلحة بيننا وبين العدو، سواء الجيش المصري أم الجيش السوري. وأراكم خضتم طريقاً طويلاً لإثبات ما لا يحتاج لإثبات..
قال عبد الحميد:
- ما يعنيني.. كيف ترسم جريدتكم موقفها؟ ومع من هي..؟!
as.abboud@gmail.com