تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


حتى لا ننسى ( 8)

معاً على الطريق
الأربعاء 22-4-2015
أنيسة عبود

حتى أنسى فتحت الصور القديمة ورحت أمزقها واجعلها نتفاً تطير في الهواء.

النتف صارت صوراً جديدة, كبيرة, ترتفع في الهواء وترتسم على الجدار الذي أمامي.. لوحات ملونة تسير معي على شاطئ مدينة جبلة الحبيبة التي تحتوي على مدرج مصغر لبصرى الشام.. فكرت بالهروب من هذه الصور التي تؤجج الألم.. سرت باتجاه البحر..لكني لم أجد بحراً.. غيرت الاتجاه ورحت ابحث عن عربات الفول والترمس لأسأل عن البحر الذي كان في مدينتي حيث كنا نهرب إليه ونحن في الثانوية لنتسلم رسالة حب أو لنسمع كلمة غزل تجعل العالم كله ملك أيدينا.‏

أين البحر؟ بحر جبلة الذي تحبسه جروف الصخر العصيّة على الزمن.. بحر المدينة التي تعود إلى ما قبل الميلاد؟ بحر, كنا نراه من نافذة المدرسة.. من أعالي المدرج أو القلعة..كنا نسهر معه.. نرمي في عبّه همومنا.. نشكو إليه ونبكي في حضرته فلا يذيع أسرارنا.. وكنا إذ نزوره لا نحتاج للمال فهو بحر الجميع وللجميع وصدره يتسع للفقراء والأغنياء معاً.. عائلات تخرج من هجير تموز وآب وتسهر حتى الفجر.. واحياناً تنام على الكورنيش لتنعم بالهواء العليل.. كانت المدينة آمنة..وكان كورنيشها نظيفاً هادئاً, يجوبه بعض الباعة وبعض (الفلوكات) للسمك - كما نسميها في جبلة - الفلوكات تروح وتجيء من الشمال إلى الجنوب.. تصل أطراف قبرص وتعود محملة بسمك السلطان ابراهيم الذي يتوسط المدينة.‏

الصور تحفر في الشوق القديم.. لا مكان للهروب من هذه الأشواق سوى البحر.. لكني لم أجد البحر. وقفت على الرصيف وسط زحمة عارمة استجدي الجواب.. أين البحر؟ بحر الفقراء.. بحر الفينيقيين..بحرنا الذي يصلنا بالأزمنة القديمة والحديثة والذي اجتازته الملكة زنوبيا مقيدة إلى روما الغاشمة..البحر الذي جاء من خلفه الاسكندر المقدوني.. البحر الذي غنت له أوغاريت ونامت على موجه عشتار..البحر الذي ذهبت جدتي إلى شاطئه لتجمع الملح البحري فرآها العسكر الفرنسي فهمّ بضربها وخلّصها الملح ومنديلها (حرير المسلوبة).‏

صرخت بأعلى صوتي: البحر يا ناس.. البحرالذي كنت أراه من نافذة بيتي أين ذهب ؟ البحر الذي له شاطئ صخري نادر ويمكن الاستفادة منه في تصميم المقاهي والكافتيريات دون الصعود إلى رصيفه وحجب الرؤيا عن مدينة بكاملها هي له وهو ملكها؟ هل نعود مرة أخرى فنكرر مأساة شاطئ اللاذقية ؟‏

حاولت أن أجد جواباً, لكن الزحمة لم تمهلني..سيارات تزعق وتمنع السير المجدي.. عربات تبعق., حدائق مغلوبة على أمرها بلا شجر وبلا حجر وبلا ورود.. عشبها يابس..وزوارها عطشى .شعرت أني في مدينة لم تر البحر أبداً ولم يمرّ عليها بعل ولا زارتها ملكة سيانو الفرعونية.. مدينة لم تكن هكذا قبل أربع سنوات..فماذا فعلت الأزمة بها؟ أو بالأحرى ماذا فعلنا نحن سكانها بها؟ ربما نجد الجواب عند المسؤولين الذين أهملوها.. والذين سمحوا ببناء المقاهي الفاخرة التي حجبت الرؤيا وحجبت البحر عن الفقراء.؟‏

تنهدت بحسرة.. لأن التشويه الذي حدث خلال فترة وجيزة كان يحتاج إلى عقود وربما أكثر ليحدث..قلت لسائق تكسي ( أخرجني من هنا.. من الأراكيل ومن هذه الزحمة.. ومن هذا التلوث أرجوك ).. لكنه لم يرد كان يشرب الكولا..وعندما انتهى رمى الزجاجة في الحديقة فسمعت صوت ارتطامها وانكسارها بينما كان يشير أن أصعد.‏

سرنا مسافة طويلة لم أر البحر.. كانت المقاهي عامرة بالعاطلين عن العمل برائحة الفحم والأراكيل ترجلت في نهاية الكورنيش.بحثت عن صخرة كنت أجلس عليها مع الأصدقاء وكنا نصنع القهوة ونتأمل الأفق البعيد.. لم أجد الصخرة بل وجدت أعمدة ومساحات مستوية مغطاة بالأسمنت..قيل لي هنا سيبنى فندق..وهناك سيكون مقهى جديد. يا للهول..صرخت..لماذا لم يبنوا في الجهة المقابلة ؟ من سمح بسرقة البحر ؟ لماذا لم يحفروا في الصخر مثل باقي المقاهي لينزل الفرد درجات فيسلم على الموج ويترك فسحة للعابرين وللفقراء الذين لا يقدرون على ثمن فنجان القهوة في هذه المقاهي.‏

رزق الله على عربات الباعة وعلى الشوادر الصيفية.. وآه عليك يا بحر.. حتى أنت سرقوك وباعوك وعين المسؤولين غافية أو متغافية.. أو مشاركة.. أم الثمن مدفوع ؟ (خبرونا حتى لا ننسى).‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 أنيسة عبود
أنيسة عبود

القراءات: 689
القراءات: 820
القراءات: 735
القراءات: 697
القراءات: 734
القراءات: 657
القراءات: 682
القراءات: 881
القراءات: 929
القراءات: 760
القراءات: 735
القراءات: 775
القراءات: 761
القراءات: 857
القراءات: 757
القراءات: 750
القراءات: 740
القراءات: 824
القراءات: 735
القراءات: 885
القراءات: 744
القراءات: 791
القراءات: 878
القراءات: 959
القراءات: 763

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية