بعد أن غرقت الأقلام والأفواه على حد سواء في ضخّ ما يكفي لتشويه الصورة، حتى في جزئية الوقوف على أطلال الوحدة السورية -المصرية.
التجربة السياسية رغم ما تنطوي عليه من استباحة، لا تبدو قادرة على مصادرة ما تبقى، لكنها في الوقت ذاته تمارس ساديتها في التعتيم عليه بقصف سياسي لا يترك مجالاً حتى لاستدراك ما فات أو للاستفادة مما مضى، حيث الحال العربي يرثي ذاته، وفي جعبته ما يكفي ليوزع الرثاء على الأمة بكاملها.
ليست القضية في مناقشة الصورة السوداوية التي تسود الفضاء العربي، وإنما في المقاربات المتوافرة التي تحاكي سنوات عجاف تمارس بقسوة حالة الاستلاب حتى النهاية، وفي الهجين السياسي الذي وصلت إليه الحال العربية، وهي تتقارب مع عهود الظلامية الأولى التي مسخت التجارب المبشرة في ذلك الوقت، وقدمت عهوداً من التبعية التي ما زالت صورها مطبوعة في الذهنية العربية.
فالضفاف العربية تجترّ الذاكرة التي تواجه العلة ذاتها، وسياسة الأحلاف والتحالفات تعاني من التشوّه نفسه، وتبني محاورها على أنقاض العروبة والعرب بلداناً وهوية وجغرافية، حيث لا يكاد المتابع يجد فارقاً بين حدود التطابق أو الاختلاف، ولا يتسع الوقت لإعادة معايرة مساحة التطابق بين ما كان وبين ما هم ذاهبون إليه.
ما يدفع إلى كل ذلك أن الطيف المتزاحم من التطورات اليوم يدفع بالذاكرة إلى المقارنة، ونحن نشهد مداً من الأطماع التي تحاكي الفترة ذاتها من الاستلاب السياسي رغم الاختلاف في الظروف، حين كان من الصعب على العرب في ذلك الحين أن يكتشفوا ما يجري في الكواليس، وكانت مبرراتهم تكفي من الناحية العملية للإشفاق على الحال العربية آنذاك، وتتلمس لهم الأعذار فيما فعلوه، أو فيما أجبروا على فعله.
الحال اليوم مختلف في الظروف وفي التفاصيل رغم تطابق العناوين، وما يجري يتم علناً ولا حاجة إلى الكواليس والغرف المغلقة، ولا إلى مقدمات وذرائع، والأعراب التي تبرعت بأدوارها في ذلك الحين تقدّم خدماتها اليوم وهي ترفقها بسخاء في التمويل والمبادرة والطرح، وحتى الإقناع، وحين يحاول الغرب أن يستدير تجاهد في معاندة الريح السياسية، وتدفع به ليزجّ بأصابعه في أتون الصراع القائم على الكراهية الموروثة في جلباب الانتقام.
ربما كان من حق الذاكرة العربية أن تبكي تجربة أول وحدة عربية في العصر الحديث، وفي الحدّ الأدنى أن تواصل نحيبها على الأطلال، لو بقي ما يمكن أن تبكي عليه، أو لو ظل ما يحتاج إلى النحيب، والتشرذم من أقصى العروبة إلى أدناها تتقاذفه العواصف والأعاصير، كمقدمة لازمة لصقيع يمتدّ في الأرض العربية، ويؤسس لعصر من الجليد السياسي المحكوم بنظرة الحقد والكراهية المكفولة بمال النفط، وعباءات المشيخات.
وكان من حقها أن تتألم لو أن أعرابياً ممن لم يبك على ما جرى في الماضي، تجرأ وأدان ما يجري اليوم من إرهاب وقتل، وما يسفك من دم، أو لو أنه وقف ليسأل: كم الثمن المقبوض .. وكم ذاك المدفوع.. كي تتلون شوارع دمشق والمدن السورية بالدم لأنها لم تشارك في مراسم دفن العروبة والقومية ولم تكن طرفاً في وأد أحلام الوحدة ولم تقبل الشراكة مع القتلة والمحتلين والطامعين؟!!
لم ننتظر منهم إدانة ولا استنكاراً، والتشوه العربي يعيش عصره الذهبي، بعد ان تبوأت الصدارة فيه مشيخات الخليج، وتقلدت مفاتيح العمل العربي لترسم خارطة تزيل منها إحداثيات الوحدة والقومية والعروبة، وتقيم مكانها زمناً آخر لأطماع الغرب الاستعماري بروّاده الجدد، والأحلام العثمانية بنسختها المعدلة على المقاس الأردوغاني.
الفارق بيننا وبينهم أن ذاكرتنا لم يصبها العطب، لم يقترب منها التشوّه، وما زالت الوحدة تحاكي فينا وجداناً يلتقطه أطفالنا رغم هول الإرهاب الذي يخطفهم صباح مساء، ويحاول أن يقتنص ما في كتبهم وحقائبهم المدرسية وذكرياتهم على مقاعد الدراسة، وأبجديات العروبة والقومية ودروسها الوطنية في التمسك بالسيادة والقرار الوطني المستقل.
والفارق أيضاً أن طيفها رغم مرور خمسة وخمسين عاماً لا يزال يملأ المكان ذاته ويحتل المساحة ذاتها، وإرهابهم لن يزيدنا إلا تصميماً على المواجهة مع أطرافه وحماته ورعاته ومموليه حتى النهاية، وتمسكاً بنهجنا وسيادتنا وقرارنا الوطني المستقل وموقفنا الذي نستعيد في ذكرى الوحدة بعضاً من وهج ما أضافته إلى الذاكرة العربية.
a.ka667@yahoo.com