ورغم اليقين المسبق بأن الكبار لديهم ما يكفي من أوجاع ومتاعب، وأنها ستكون الذريعة كي لا يتذكروا الكثير من القضايا الملحة، وربما دون أن تحظى حتى بهوامشهم تلك، فإن أحداً لا يستطيع أن يتجاهل أن منتجع كامب ديفيد سيسجل في يومياته أن أولئك الكبار مكثوا هناك.. تذاكروا فيما بينهم.. خضعوا لاختبارات الإرادة، كما تعرضوا لجس النبض المحاذي لهم حول الخيارات المتاحة،في ظل سطوع الدور الروسي على المسرح العالمي، ثم عادوا من حيث أتوا.. وقد استحضر بعضهم في أوراقه أدوات أطماعه من العهد البائد.
المعضلة ليست في تهميش قضايا الشعوب ومشكلاتها.. إنما في الصدى الذي يتردد عادة لما يدور في الجلسات المغلقة والكواليس، خصوصاً في ظل تفاقم مزدوج للتحديات التي تواجهها الدول الصناعية السبعة، فيما روسيا وحدها تقف على الضفة الأخرى، وربما المقابلة، إذ لا ينكرون وجود اهتزازات خطيرة لن تكتفي بما أحدثته، وإنما بما ستصدره للشعوب من مشكلات مزمنة وخطيرة، فحين يسعل الكبار، على الأغلب يختنق الصغار!!.
على هذا المنوال يتشارك أولئك الكبار في تحدياتهم.. لكنهم يتناقضون في نظرتهم وفي رؤيتهم حين يحضر الصوت الروسي.. وحدود المجابهة قائمة على المعيار ذاته.. لكن في أجواء مشحونة وملبدة بغيوم المواجهة القادمة التي عبرت عنها أزمات المنطقة بالتحديد، والأزمة في سورية على وجه الخصوص التي ينبثق من أرضها ملامح نظام عالمي يتجه إلى الطلاق مع سابقه، ويؤسس لتعددية ستكون سورية حجر الرحى في اتجاهاتها.
بان كي مون يقر باعتقاده أن القاعدة قد تكون وراء تفجيرات دمشق، والخارجية الأميركية تؤيد ما ذهبت إليه الصحافة الأميركية.. والإرهابيون الذين قدموا اعترافاتهم في سورية يؤكدون العلاقة مع القاعدة، والتجنيد الذي تقوم به لعناصر إرهابية، وأحداث طرابلس تميط اللثام عن مساحة التمركز في الجوار اللبناني.
من الصعب علينا أن نتخيل أن أولئك الكبار المهمومين بقضاياهم وتحدياتهم لديهم الإرادة أو حتى الرغبة في الحديث عن تحديات القاعدة.. عن ازدواجية المواجهة، وعنصرية المجابهة، حيث بات الإرهاب وجهة نظر، وحضوره ببصماته الواضحة مجرد اعتقاد، وتسليح الإرهابيين من الأفكار الممتازة !!.
والأصعب أن نتفهم هذا الاحتكار المسبق للحق والباطل.. للمبادئ والشعارات، ولما يجوز وما لا يجوز، ما هو مسموح وغير مسموح، والأخطر التطاول على السيادة تحت شعارات الحرية والديمقراطية !!
في تراجيديا الموقف تبدو الخصال الصعبة قائمة في ذلك الاحتضان المتنامي في الداخل الغربي لازدواجية المواجهة.. حيث وجهة النظر تصبح ضريبة على الموقف، والرؤية قيمة مضافة على المشهد لا معنى لها إن لم تقترن بتلك التحولات القادرة على إحداث تبدل في الرؤية والموقف والاتجاه.
يستطيع الكبار أن يطلقوا العنان لهواجسهم.. لكنهم سيظلون عاجزين عن ملامسة عتبة التحديات الكبرى القابعة في ذاكرة الشعوب، وهي تحاكي في أضعف حالاتها هذا الهذيان العالمي في انحدار المسؤوليات والأخلاق، حيث تستعيد عهوداً بائدة من الوصائية والإقصائية والانتقائية في الممارسة والسلوك والمجابهة.
والأخطر أنها تريد أن ترسم عالماً مبنياً على الأطماع والبحث عن اختلاق معارك في أرض الآخرين، وفتح جبهات جديدة للحروب تكون البوابة الجديدة لعبور تلك الأطماع أو لإعادة اصطفافها السياسي وفقاً لمتطلباتها، أو - وهو الأرجح- الهروب من أزماتها السياسية والأقتصادية وحتى الأخلاقية التي باتت كابوساً يلامس يوميات قادتها.
يمضي الكبار يومهم.. فيما الشعوب تعد لحظاتها وعدد قتلاها ومشرديها.. وتحصي معها الأسلحة التي تعبر إلى أراضيها وقد صُنعت هناك لدى أولئك الكبار لتكون مشروعهم الجديد للهيمنة، بعد أن يئست من إمكانية فرضها بالسياسة، وبعد أن أيقنت باستحالة استمرارها دون استعادة أدوات الهيمنة البائدة وأساليبها وطرقها في الاستعباد ونهب ثروات الشعوب وقوت يومها.
يريدون أن يكون العالم الآخر مختصراً فيهم.. أن يبقى مرتعاً لتجاربهم في الاقتصاد وحقل اختبار لإنجازاتهم الصناعية، ومسرحاً لمعاركهم وصراعاتهم يعمل لحسابهم الخاص ووفق الشعار الذي يريدونه.. وبالعقل الاستعماري البغيض الذي دفعت الشعوب ثمناً غالياً للخلاص منه.
المعركة التي تستعيد أدوات العهود الماضية بكل ما فيها من عدوان واستعباد وقهر وظلم واستباحة، تحتاج المواجهة فيها إلى شعارات تستعيد الروح التي جابهت من خلالها تلك العهود، وقاومت القهر والاستعباد والعدوان والاحتلال، فكانت «العين قادرة على هزيمة المخرز»!!.
الملامح والمؤشرات تشي بذلك.. لكن ما نحتاجه أن نخرج من ردة الفعل إلى المبادرة وقد آن أوانها.. بمنطق الحق والعدالة في أن يكون تحديد المصير قراراً داخلياً محضاً لا موضع فيه لإرادة الخارج ولا لهيمنة الكبار ونصائحهم ومراكز دراساتهم!!
a-k-67@maktoob.com