والغريبة ليست سوى أنا. الفلاحة التي قرأت كتاب المروج والبحر والانتظار في مملكة أوغاريت كي تسمح بالسير نحو الجنوب.. والجنوب يعني دمشق. ودمشق تعني الأعزاء الذين تركوا بصمة في حياتك أو الذين وقفوا إلى جانبك وأنت لا تملك سوى كلمة الشكر والامتنان. وإذ تقدم هذه الكلمة عبر رسالة سريعة تخجل لأنك لم تعتد على التزلف ولا على المداورة.
لكن لا بد من الاعتراف بفضل بردى والامتنان لقاسيون لأنه يعلمنا الشموخ والصبر والصمت بكبرياء.
لكن. لا بد يا دمشق من الرحيل صوب الشمال.. حيث الأبجدية والبحر وجبل الأقرع وجابالا.. واللاذقية أو -لاوديسيا – ميناء الحب والقمح والتين وصهيل خيول الغزاة بين غابات الصنوبر والشربين.
لكن أي عودة.. والعودة من دمشق مؤلمة، ودمشق التي تختصر الكون لا بد عند وداعها من ترك ندوب في الروح. قد يكون ذلك بسبب العجز الكبير عن امتلاك الزمن.. والخيبة الكبرى لأن طريق الحرير توقف والتجار على باب الخان.. والخان بلا مفاتيح.. من سرق المفاتيح ؟ من استمرأ الصمت بينما قطار الشرق السريع يمضي ويمضي.. وكأنه الزمن الذي يمضي فلا أحد يستطيع إيقافه ولا أحد يعرف لماذا لا يتوقف وحده بعد كل هذه الثورات الدامية والسيوف القاطعة والرؤوس اليانعة؟
وانعقد اللسان.. من الحال الذي كان والحال الذي ما كان.. الخراب يعم الطريق، والحرائق تدل على أحزانها.. وأنا في الحافلة أحصي طبقات السنين وطبقات الوجد والحنين. هنا (قطعوا رأس امرأة وسبوا بناتها.. وهناك أكل قلب فتى فبكى عندما سمع صوت أمه ونام.. وهناك على باب ذاك الحي، تقف أرواح كثيرة لشبان لم ينتهوا بعد من دراساتهم، ولنساء لم تكملن طبخة – الملوخية لأزواجهن. وهناك طفل يتقدم باتجاه باب أهله ولكن وحده الباب الواقف هو الذي يسند الأرواح الواقفة وراءه. ووراء كل هذا البؤس زمن يسمونه (زمن الحرية) هذا – يبعق، وذاك يلطم.. وآخرون يدقون بالطناجر ويكتبون على الحيطان، على اعتبار أن للحيطان آذان. هه.. لا آذان في هذا العصر المملوء بالمكائد والجنون. افهموا ذلك أيها الحالمون.
الحافلة تمشي، وأنا أرحل إلى الديار حيث القرية المنسية، والطرقات الملتوية واللوحات الكبيرة التي تتزين بصور وأسماء الشهداء. كنت أتأمل تلك الوجوه البريئة التي لم تختبر الفرح بعد ولا الحزن أيضاً. لكن فجأة وقعت الواقعة.. وراح الناس يأكلون بلادهم.. والبلاد تأكل أبناءها. كبرت لوحات الشهداء. تزينت بالنجوم والرتب والألقاب. الحافلة بطيئة والذاكرة سريعة. ما زلت أشم حريق الكتب والناس والأسماء. قلت لا بد أن هولاكو جديداً يتقدم. خفت على دمشق وبكيت على قريتي حين رأيتها تعرج، فقد قطعوا ساقيها وتركوها على الكرسي النقال.. ترى وتسمع وتقدم الأبناء.. تتفاعل وتبكي ولكن دون صوت.
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..
في المدن الكبيرة يكون أبناء المدن الصغيرة بلا صوت.. ويكون أبناء القرى بلا عناوين. مشيت طويلاً أبحث عن صندوق بريد كي يراسلني عليه الأحبة.. لكن لم أستطع تأمين ذلك. قيل لي رسائلك ستظل تتجه إلى البحر حيث الأجداد الفينيقيون المحملون بالزجاج والنبيذ. وقيل لي لا تظني بأن الماضي يموت.. إنه يتجدد والأجداد يعودون إلى الحياة رغماً عنك.. لذلك لا تحاولي أن تقفي في وجه العاصفة. سيأتي هولاكو وألف هولاكو.. وسيأتي حاملو الطناجر مرة أخرى.. وسيظهر سفاحون ومنافقون وأعور دجال وستبقى دمشق. وسأبقى العاشقة التي تحبها وتهواها لأن لي فيها أحبة فتحوا لي مغاليق السرّ كي أعبر إلى ياسمينها ووردها بسلام.. فالمدن تصير لنا عندما نحبها، وأنا أحب دمشق وأهلها وقاسيونها الذي يشبه سيداتها البهيات. وأحب أن أعود إلى قريتي وأذرف دمعة على فراقها.
هي العودة والبدء. ونحن الاستعادة. والزمن المتجدد الذي لا يعود إلى الوراء أبداً.