تبتعد قليلاً أو كثيراً عن أصلها وأساسها. وما إن يتلقفها آخر حتى يعاود الكرة بإخراج جديد مدفوع بكل تركات الداخل المهزوم ناشراً صورة تعاكس وتخالف وقائع الرواية الأولى.
هي الدنيا تهب البعض فيضاً من نتاجاتها المتناقضة تاركة الباب مفتوحاً أمام كل إنسان ليختار مايريد، فمنهم من يغوص إلى القيعان العميقة، ويخوض التجارب الصعبة ويصارع أمواج البحار العالية مدركاً أن البحر الهادىء لايصنع بحاراً ناجحاً، وأنه وسط الأمواج والأعاصير تظهر وتتبدى قدرات الرجال، فيفوز بأغلى الجواهر، ويعود بأكبر اللآلىء.
ومنهم من يستهين الأمر ويركن إلى القشور والمظاهر الخادعة، ويكتفي بالأمور الصغيرة فيحصد الزبد الذي لايسمن ولايغني من جوع، ولايفيد نفسه أو أحداً معه..
هي الدنيا تهب المرء بقدر سعيه وعمله واجتهاده تتداخل فيها المسائل بأشكال متعددة لتكشف المقدرات الفردية والشخصية، وإن كانت تسمح للبعض حيناً أن يلبس قناعاً أو يستبدل عدداً من الأقنعة، إلا أنها تكشف كل تلك الأقنعة وتميط اللثام المؤقت أحياناً أخرى.
هي الدنيا تغري الكيانات الكبرى والجماعات القوية في التطلع إلى السيطرة على مقدرات غيرها من الكيانات الأصغر أو المجموعات الأضعف، وتنحو باتجاه نهب ثرواتها واستعمار أراضيها وإجبارها على الخضوع لها وخدمة مصالحها وتنفيذ مشاريعها، والاحترام بالتبعية لها أطول مدة ممكنة.
هي الدنيا تفرض واقعاً محكوماً بقوانين متنازعة طرفاها الحق والقوة بدأت منذ تشكيل المجتمعات.
السياسية الأولى، وقيام الدولة الاستبدادية الأولى في شكلها العبودي، واستمرت بأشكال كثيرة وصولاً إلى المرحلة الاستعمارية الحديثة، وانتهاء بشكلها الإمبريالي العالمي وما يرافقه من اتجاه نحو السيطرة على مقدرات كل شعوب الأرض، مادامت تلك الدولة الإمبريالية قادرة على امتلاك القوة العسكرية والسياسية والعلمية والتكنولوجية وموظفة بكل أشكال التقدم العلمي والاجتماعي والثقافي والفني في خدمة مشروع السيطرة الأساسي. هي الدنيا تؤكد يوماً بعد آخر استمرار تلك المساعي السائدة باتجاه السيطرة، واعتماد أساليب وأشكال متجددة توافق المتغيرات والمستجدات ونتائج المواجهات في كل مرحلة من المراحل.
هي الدنيا تظهر في المقابل قدرة على المواجهة والثبات من جانب تلك الكيانات الأصغر والمجتمعات الأضعف في الحفاظ على وجودها وهويتها الحضارية والثقافية باعتبارها كيانات ومجموعات تمتد بعيداً في التاريخ الإنساني وتنتمي إلى مواطن عاشت فيها دهوراً طويلة، ولن تقوى كل قوى الطغيان على إبادتها.
هي الدنيا تفرض أشكالاً من المواجهات مابين قوى الحق والخير من جانب وقوى الشر والعدوان من جانب آخر تاركة الأفراد يتنازعون مواقفهم مابين حالات التمويه والافتراء بمواجهة الوضوح والصدق فإن ظهرت صور ومشاهد معكوسة أو منحرفة أو ذات اتجاهات منكسرة كماتظهر الصورة معكوسة في المرآة أو منكسرة كما في الحياة، فإن القوانين والبراهين العلمية تظهر مدى كذب تلك الرؤى، وتقدم الدلائل الدافعة على كذبها.
وإن ضاعت بوصلة بعض الأفراد في القدرة على تمديد الاتجاهات الصائبة، فإن العقل الإنساني قادر على استعادتها في التوقيت الذي يريد أن كان راغباً في الوصول إلى الحقيقة ومعرفة الصورة الصادقة، ولكن ذلك لن يتحقق إلا إذا تخلى العقل الفردي عن كل تلك التراكمات والخلفيات التي رمتها سنون طويلة من التخلف والتبعية والفقر في أذهان البشرية، فالكل قادر على امتلاك الحقيقة أو جزء منها.. ولكن إن أراد ذلك؟.