| أعمدة من ورق (6) ثقافة «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» ونهتف بالوحدة والحرية والاشتراكية.. لا فرق في ذلك بين بعثي أو شيوعي أو إسلامي أو لا منتمٍ «مثلي أنا».. وعلى الشارع أن يحسن رجع الصدى.. الحوار كان قائماً وينتقل من مجموعة إلى أخرى.. وغالباً حوار كسر العظم. مع أرغفة الخبز التي عاد بها متأخراً، بعد أن شغلته فرجةٌ.. روى لنا كيف كان المعترضون المتآمرون الرافضون قرارات الاشتراكية يقادون بسيارات مكشوفة إلى سجن المزة العسكري وهم يهتفون انتصاراً للنظام السياسي وعلى حداثة سننا أضحكنا تصوير المشهد. كانت «الثورة» تورد يومياً أخباراً وتعليقات ومقالات وصوراً عما يجري.. وقد انتصرت لها.. ما كنت أسمعه في المدرسة عن الأحداث كان مختلفاً جداً عما تنشره الجريدة.. ولأنني مؤتلف معها في بيان المعلومات وليس لي مصدر آخر تبنيت موقفها ودافعت عن محتواه. بدأت مشكلاتي في المدرسة. بدأت أشط بعقلي بعيداً.. وأخلط بين الحلم والحقيقة.. وهذا يقضي بتراجع الاهتمام في الدراسة والتحصيل وتقدم احتمالات السقوط.. أو على الأقل درجات لا توصل للهندسة ولا لغيرها.. في شطط الأحلام اعترض ذهني مراراً أسئلة محددة.. من هو فلان «من كتّاب الجريدة» كيف شكله؟! من أين يأتي بما يكتبه؟! ممدوح عدوان.. خلدون الشمعة.. جورج طرابيشي.. عبود كاسوحة.. الخ. كنت أسأل أخي عنهم.. ويشرح لي وأكثر من مرة توفرت لي فرصة طارئة لأرى أحدهم.. - أتمنى أن تنشروا اسمي في الجريدة. - جريدتكم «الثورة». - يعني أكتب «شغلة» وأنشر اسمي. بابتسامة ساخرة قال لي: أيقظني من الحلم بالصفعة.. الأيام تمضي وموعد الامتحانات يتقدم.. وأنا أسبح على بساط للريح من ورق.. جريدة الثورة.. الأسبوع العربي.. الموقف الرياضي.. الخ. استغلَلْتُ أول عطلة تسمح لي بالابتعاد عن دمشق فقصدت القرية وبين ما أحمله مجموعة من أعداد الثورة.. لا أدري عشرة، خمسة عشر.. جمعتها من بيتنا طبعاً من تواريخَ مختلفة وأحدثها مضى على صدوره يومان أو ثلاثة قبل وصولي، اختطفتها الأيدي منّي عندما شعروا برغبتي في توزيعها.. لا ضرورة للحداثة، حمل الجريدة في قريتنا أو حتى في مدينة أكبر من قريتنا بقليل، يعني أن حاملها أستاذ بحق لا ينقصه إلا «النضارات». علاء كان الوحيد الذي طلب عدداً ثانياً، علماً أنه أول من أخذ.. سألته: - قرأت العدد الذي أخذته؟! - ثم.. - اهترأ - بهدل قميصك؟ كان ينقصه؟! لم أعطه عدداً ثانياً.. عاقبته.. وكنت منبهراً بما أوضحه لي عن لون أسود سال فوق قميصه.. إذن، هذا اللون الأسود الذي أخرج به بعد تعاملٍ لوقت محدد مع الجريدة.. هو لون الحبر. سيأتي يوم أعرف فيه السر, عندما أكتشف أن ذاك الغامض الأسود المثير المنشور على الورق إن هو إلا حبر تدلك به أحرف الرصاص ويمر الورق عليه مضغوطاً فتكون الجريدة. عندما سألني «الدكنجي» في حارتنا عن حصته من الجرائد.. قلت له: أنت لا تعرف القراءة.. فأجابني بنزق: «ليش» الجرائد للقراءة؟! لم أره في حياتي يستخدم جريدة للصرّ.. كانت الجرائد قليلة.. كان يستخدم أوراق مجلات.. أو دفاتر مكتوبة سُجّل عليها تاريخ حافل لأبطال المدارس الذين ربما تخرّجوا منها بعد جولة بضع سنوات بدرجة «أمي» بامتياز. أو يصرّ بأوراق كتاب ما، لا أحد يعرف كيف يصله.. أغاظني احتقاره «الثورة» معتبراً أنها دفتر خربشات لتلاميذ فاشلين أو أوراق كتاب عديم النفع.. ولم أغفر له إلا عندما قرأت «الأيام» لطه حسين.. فاكتشفت أنه ذات يوم صرّ لي بضع حبات كراميلا بأوراق منه. تعلقت بالثورة أكثر حتى من أخي الذي يعمل فيها.. واستمريت عاشقاً حتى تمّ الزواج وبدأت العمل فيها.. ثم اكتشفت أنه زواج كاثوليكي لا تفريق بعده.. يومها تساهلت كثيراً في استخدامها للصرّ بل مارست الهواية والغواية.. عدت من الإجازة وقد حصلت على بعض الترقّي الاجتماعي.. إلى مرتبة موزع جرائد.. ومجاناً.. لا أحد يعلم، ما ينتظره. a-abboud@scs-net.org
|
|