قبل حوالي خمسمئة عام من اليوم, وحين فاضلت محاكم التفتيش غاليليو بين حياته ويقينه بدوران الأرض , أنكر الرجل يقينه ونجا, وما من أحد يستطيع المزايدة بالثوابت والقيم لحظة يكون الثمن إزهاق روح بضربة سيف أعمى أو فوق كومة حطب مشتعل . غادر غاليليو خيار الموت المجاني ومعه روحه, لكنه تمتم وبيقين ... « ومع ذلك فإنها تدور « !!
ومع أن إرهاب « محاكم التفتيش « العمياء, الذي يلاحقنا اليوم في سورية والعراق يقتلنا حتى قبل أن يسألنا أو يساومنا على إنكار يقيننا, ومع أن السوريين والعراقيين يبلون حسناً, على طريقة لغة التوصيف السياسية المهذبة, في الدفاع عن أوطانهم وحيواتهم ومصائرهم في مواجهة هذا الإرهاب رغم كل الدماء والخراب الذي ألحقه بنا, إلا أن معركتنا الفاصلة معه ليست على هذه الجغرافيا الممتدة بين بلدينا ولا هي في مدننا وقرانا وشوارعنا, بل هي في التربة التي تنتج وتعيد إنتاج هذا الإرهاب بين كل حين وحين .. ممتداً بين ظهرانينا وداخل عقولنا فكراً شوفينياً وثقافة أحادية عمياء وحضانة ممرضة ؟
ليست الجغرافيا من يتحكم بانتشار المرض العقلي امتداداً أو انحساراً, بل العقل هو من ينشر أمراضه إلى كل جغرافيا تحضنه وتمده بأسباب العيش والنماء, وإذا كان استصلاح الجغرافيا تلك يستدعي اليوم « تعشيبها « من كل عشب ضار وسام نما وتطاول فوقها خلسة أو جهاراً كما يجري اليوم على أرض البادية السوراقية .. فإن استصلاح هذه الجغرافيا وتنظيفها نهائياً وأبداً يستدعي بالضرورة إهلاك الحواضن والبذور المدفونة تحت طبقة رقيقة من ترابها, والتي لا تلبث حيناً حتى تعاود نشاطها في الظهور إلى مالا فوق السطح !
ثمة عقل ينبغي تنظيفه بهذه الطريقة المجازية, وثمة أفكار وثقافات ومعارف متراكمة وحاضنة ينبغي إهلاكها وتحويلها إلى مستحاثات ولقى أثرية في متاحف التاريخ وعصور الانحطاط .. وإلا فإننا نحرث في ماء عباب !
ثمة وحش ثقافي معرفي يتجول معنا وبيننا, يأسرنا ويمعن في تدميرنا من الداخل, أو يدفعنا ويوجهنا إلى تدمير الآخرين .. وبما يحرضهم بالمقابل على تدميرنا , ينبغي تحنيطه وإدخاله المتحف عنوة, ينبغي أسره والتحرر منه وتحطيم قيوده . وحش لا سبيل إلى تكسير سيوفه أو بعثرة حرائقه المشتعلة تحتنا, ولا إلى مهادنته بمحاولات الإصلاح والتقويم المجانية والعقيمة, ولا إلى مساومته على يقيننا الوطني والأخلاقي والإنساني, فإن لم نفعل سنظل ندفع ضرائب الدم والخراب بين زمن وآخر , وسنظل ننقل طاعوننا إلى العالم عبر الجرذان المتسللة إلى سفن رحيلنا !!