لكنها قد تكون الأكثر إحراجاً لها وللدبلوماسية الأميركية التي اعتادت الإغراق في التواءاتها، وعانت من التخمة بحالات الاعوجاج الناتجة عن تشظّي النظرة الأميركية وتباعد خطوط التقاطع بينها وبين الوقائع على الأرض وغياب الجدية.
فإذا كانت مهمة هارف استدراك ما يمكن استدراكه في الوقت الفاصل بين الكلام واختباراته العملية على الأرض، فإنها جاءت في الوقت بدل الضائع، بدليل أن الرسائل التي كان يود كيري أن يخطّها في الاتجاهات المتعارضة قد وصلت، لكن الفارق أن النتائج المتوخاة كانت معاكسة تماماً، حيث ردّة الفعل لدى الأدوات الأميركية في المنطقة وخارجها كانت نافرة ومؤذية، فيما جاءت في الجانب الآخر دون محصلة تُذكر، لأنه لا يمكن التعويل على تصريح أو موقف قابل للسحب من التداول في أي لحظة، أو سيخضع للتصحيح والتفسير المزدوج لاحقاً.
والمسألة ليست توصيفاً بقدر ما هي واقع عملي يمكن الاستدلال عليه من خلال الردود المتعاقبة، فالتعامل مع نماذج مختلفة من اللعب الأميركي بالألفاظ ليس وليد اللحظة، بل يحمل تراكم سنوات طويلة وتجارب مديدة تحاكي عمر الدبلوماسية الأميركية وتعاملها مع قضايا المنطقة، وتحديداً ما تجمّع منها بعد الأحداث التي شهدتها الدول العربية في السنوات الأخيرة، حيث كانت كافية على الأقل لإعادة تثبيت الحقائق المعمول بها حيال هذه الدبلوماسية.
وجاء الموقف الأميركي مما يحدث في سورية عبر تقلّباته المتعددة، والأمزجة التي حملت متاريس من الإلغاء حيناً، وعانت من التشوّه في أحيان أخرى كثيرة، لتضع الكثير من النقاط في مواقعها المفقودة لدى الكثير من مقاربات دول المنطقة، حين كانت تراهن على المُعطى الأميركي وتعوّل على الألفاظ الأميركية والمصطلحات لتكون بوصلتها في قراءة المشهد، حتى لو اقتضى الأمر الانحدار إلى سوق الخطابة الرخيصة والتودد المفتعل، والمبادرة إلى تقديم خدمات لم يطلبها الأميركي وربما لم يكن يريدها.
عودة كيري إلى اللعب من خارج المربع الأول الذي اعتاد على المراوحة داخله طوال وجوده على رأس الدبلوماسية الأميركية يدفع إلى الجزم بأنه افتقد الكثير من الفعالية والتأثير المتوقع لو أنه جاء من غير السياق الذي ألزمه بالشرح غير المبرر، ويضاف إليه قبل ذلك وسيكون بعده أيضاً أن حديث كيري لم يخلُ من نفاق في تدوير الزوايا، وما خفي منها كان أكثر مما بان، وأن ما طرحه لا يعدو محاولة بائسة لتكييس وجه دبلوماسية أغرقت في تقديم مقاربات افتراضية بعيدة عن الواقع، واصطدمت على الدوام بسيل من المفارقات التي أظهرت سلسلة من الإخفاقات الواضحة، التي لم يكن من المسموح الإقرار بها أو إظهارها على الأقل.
وأضيفت إلى أوراق اللعبة الأميركية محاولات متباينة من الإبهار والجنوح نحو إضفاء التشويق والإثارة للتغطية عبر الغبار المُثار على مسارات أخرى، لم يكن بمقدور هارف أن تغطي عليها، رغم أن تغريدتها على تويتر جاءت متناغمة مع السلوك الأميركي في مثل هذه الحالات، حيث التباين في التفسير أو التوضيح المتعمّد يضفي المزيد من الغموض حين يحاكي السلوك الأميركي.
الغوص الأميركي في مستنقع الحسابات والمعادلات المعكوسة ليس جديداً، بمقدار ما يكرّس واقعاً في الحالة الأميركية التي تفرض المزيد من الأسئلة والاستيضاحات حول الأفعال الأميركية قبل أقوالها، ماذا عن دعم الإرهاب؟ وكيف ستتعامل مع الدول الداعمة والمموّلة والحاضنة؟ وماذا عن فانتازيا الرئيس أوباما التي يروّج لها كيري وتحديداً تلك المعسكرة في ثكنات أردوغان؟
يصعب تحديد إجابة مقنعة، لكن يمكن الوصول إلى استنتاج حقيقي بأن عودة الأميركي إلى اللعب من خارج المربع الأول الذي حشر نفسه فيه، قد يشكل بوابة للانعتاق مما ورطت واشنطن نفسها فيه عبر تصريحات متسرعة، غير أنها غير كافية لفتح بابها الذي لا يزال موصداً أمام سيل نفاق يحتاج الأميركي إلى وقف تدفقه، حاله في ذلك حال الحاجة إلى وقف تدفق الإرهابيين وتمويلهم وتدريبهم، حتى يكون بمقدوره أن يلامس عتبة الحديث عن تغيير يمكن أن يحدث في لحظة لمّا يحن أوانها حتى الآن..!!
a.ka667@yahoo.com